البلاغة والعدالة.. وجهان لعملة واحدة في معرض دمنهور الثامن للكتاب.
عُقدت ندوة فكرية متميزة بعنوان “البلاغة والعدالة”، شارك فيها نخبة من أساتذة جامعة دمنهور والأزهر الشريف، بحضور جمع من المثقفين والباحثين وطلاب الجامعات ، و يأتي ذلك تحت رعاية الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، وفي إطار فعاليات معرض دمنهور الثامن للكتاب الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب بمكتبة مصر العامة بدمنهور.
بدأت الندوة بكلمة الدكتور محمد عاشور الذي رحّب بالضيوف، أعقبها الدكتور منصور أبو العدب بكلمة افتتاحية أشاد فيها بهذا اللقاء الفكري الذي يجمع بين تخصصين يبدوان متباعدين في ظاهر الأمر، لكنهما في جوهرهما متكاملان، مؤكدًا أن الحوار بين البلاغة والقانون هو أحد أوجه التفاعل بين الفكر واللغة، وبين العدالة والمنطق.
ثم قدّم الدكتور أحمد الشرقاوي، أستاذ المرافعات ووكيل قطاع المعاهد الأزهرية للتعليم بالأزهر الشريف، مدخلاً تأصيليًا رصينًا عن العلاقة بين البلاغة والعدالة، موضحًا أن البلاغة ليست مجرد تزيين للكلام، بل هي أداة لضبط المعنى وإيضاح الحقائق. وأكد أن العدالة لا تقوم إلا على لغة واضحة دقيقة، وحجة بليغة تضع الأمور في نصابها، مشددًا على أن البلاغة في خدمة العدالة تجعل الحكم القضائي عادلًا في مضمونه ومقنعًا في شكله.
وأضاف الشرقاوي أن الدين الإسلامي شرع ما يحفظ حقوق الناس، وأن القانون جزء من منظومة القيم التي أتى بها الدين لتنظيم حياة البشر دون تمييز. وأوضح أن العدالة في جوهرها موضوعية لا شخصية، لا تعرف المحاباة أو التمييز، وأن القاضي مأمور شرعًا أن يحكم بالعدل، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾.
وأشار إلى أن البلاغة ليست ترفًا لغويًا بل ضرورة قانونية وأخلاقية، إذ إن دقة التعبير تصون الحقوق وتمنع الظلم. واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إنكم تختصمون إليّ… فمن قطعت له من حق أخيه شيئًا فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها”، ليؤكد أن البيان والدقة في اللغة أساس إقامة العدل.
وفي مداخلة ثرية، تحدث الدكتور محمد أبو علي، أستاذ البلاغة والنقد بكلية الآداب جامعة دمنهور، عن التداخل العميق بين القانون والبلاغة، مشيرًا إلى أن الفلاسفة اليونانيين، وعلى رأسهم بروتاغوراس، أدركوا أهمية اللغة في صياغة القانون وإقامة العدالة. وشرح كيف أن البلاغة القانونية هي التي تحفظ الحقوق وتحدد الواجبات، وأن سوء استخدام اللغة أو غموضها قد يؤدي إلى ظلم أو التباس في تفسير النصوص.
كما تناول الجانب الإنساني في مهنة القضاء، مستشهدًا بمشاهد درامية جسّدت رجل القانون وهو يستخدم الكلمة سلاحًا لإظهار الحقيقة، مؤكدًا أن القانون بلا بلاغة جافّ، والبلاغة بلا عدالة خادعة.
وعرض الدكتور أبو علي رؤية بروتاغوراس حول القانون باعتباره فنًا إنسانيًا يقوم على الإقناع، وليس مجرد قواعد جامدة، موضحًا أن نسبية اللغة والمعنى تفرض على القاضي والمحامي والمسؤول القانوني مسؤولية كبيرة في تحري الدقة والموضوعية، حتى لا تتحول البلاغة إلى وسيلة تضليل.
وفي ختام الندوة، قدّم الدكتور أبو اليزيد سلامة فقرة متميزة من الطرائف اللغوية، أبرز من خلالها جمال اللغة العربية ومرونتها ودقتها. وأوضح كيف يمكن لتقديم كلمة أو تأخيرها أو اختلاف حركة واحدة أن يغيّر المعنى القانوني أو الفقهي تغييرًا جذريًا، داعيًا إلى العناية باللغة في النصوص القانونية والشرعية والإدارية على حد سواء.
وفي نهاية اللقاء، وجّه المنظمون خالص الشكر إلى رابطة خريجي الأزهر الشريف العالمية على رعايتها لهذا الحدث الفكري الرفيع، وإلى الأساتذة المشاركين الذين أضاءوا بعلمهم جوانب العلاقة بين البلاغة والعدالة، مؤكدين أن الكلمة والحق وجهان لعملة واحدة، هي عملة الحضارة الإنسانية الراقية، حيث تتجلى العدالة في البيان، ويتجسد البيان في خدمة العدالة.