بريهان أحمد تكتب : مقعدٌ داخل قطار الحياة: قراءة اجتماعية في رواية مقعد رقم 17 للكاتبة إسراء الوزير
بريهان أحمد & كاتبة وناقدة أدبية

“تستحقّ حياتي أن تُروى، لا من أجل فضائلي، بل من أجل آثامي” إيزابيل الليندي بهذه العبارة التي تمضي بوصفها طعنة في وجدان القارئ، تبدأ الكاتبة إسراء الوزير روايتها “مقعد رقم 17”، فتفتح بوابة الاعتراف لا إلى التوبة بالمعنى التقليدي، بل إلى الغوص في العتمة الداخلية للإنسان، حيث تختلط الحقيقة بالخوف، والندم بالأمل، والذنب برغبة الغفران.
خلال قراءة السطور الأولى للرواية، يتبدّى للقارئ نَفَسٌ سرديّ مشغول بعناية؛ حيث تمتاز اللغة بالرشاقة والوضوح، دون أن تفرّط في عمق التعبير أو اهمال البُعد النفسي للشخصيات؛ إذ تمضي الحكاية بين محطّتين: اعتراف نورا، واعتراف ريان عبر محطات كثيرة، لتشكّل الرواية في بنيتها الثنائية مرآتين متقابلتين تعكسان هشاشة الإنسان حين تُعرّيه الحياة.

شخصية نورا:
حين يتحوّل الحبّ إلى هروب والتمرد الجزء الأول من الرواية يقدّم نورا، الفتاة التي لا تتحدّث إلى القارئ فحسب، بل تعترف له، وتفتح جراحها دون مواربة.
لا تنتمي نورا إلى عالم القصص الرومانسية؛ بل هي نتاج بيئة قاسية، وأسرة مثقلة بالعجزفي زنقات الاسكندرية وضواحيها، وعلاقات مشروخة ومشعبة بالخذلان. سقَطت في الخطيئة لا بحثًا عن لذّة، بل هربًا من قسوة الواقع، ومن قهر أنوثة لم تجد من يصونها.
تقول الكاتبة على لسان الشخصيات ما يوحى بأن ما بين الذنب والندم، لا أبحث عن الغفران منكم، بل من نفسي التي خذلتني! وهذه العبارة تختزل رحلة نورا بأكملها: رحلة من السقوط إلى الصحوة، ومن الجرح إلى الاعتراف، ولو تأخّر الخلاص.
شخصة ريان:
من جلّاد إلى إنسان نسخة من أب غير شرعي في الجزء الثاني، تتبدّل زوايا الرؤية، وننتقل إلى عالم ريان الرجل الذي ظنّ أنه يعرف نفسه، قبل أن تكشفه الحياة. رفض الارتباط بفتاة نشأت في ملجأ، من منطلقات طبقية سطحية (مها) ، ليكتشف لاحقًا أنه هو ذاته ابن الخطيئة لعلاقة غير شرعية، لا تصفعه الحقيقة فحسب، بل تهشّم قناعاته المزيّفة، وتجعله يعيد النظر في معنى النَسَب، والكرامة، والانتماء. يتحوّل ريان من شخصية مغلقة على ذاتها إلى كائن هشّ، مكسور، يُدرك متأخرًا أنه لم يكن يومًا في موقع القوّة، بل كان يختبئ خلف جدران من الوهم.

رمزية القطار:
مدلول على الحياة ومرور الزمن واحدة من أبرز نجاحات الرواية تكمن في استخدامها لرمزية القطار رغم استخدام تلك الرمزية المعتادة، فـمقعد رقم 17 ليس مجرد مكان مادي في عربة تسير، بل هو مسرح اعتراف، وستارة تنزاح عن النفس البشرية المحمل بالآثم ، وأيقونة رمزية للحياة ذاتها، إذ تمضي لا تنتظر أحد، تقلّك من محطة إلى أخرى، من طفولة إلى مراهقة، من حبّ إلى خذلان، ومن ذنب إلى غفران محتمل. وبهذا، تجعل الكاتبة من القطار بطلًا موازيًا في الحكاية، يراقب بصمت مصائر البشر المتشابكة.
الغفران عنوان جديد ، أظن لو كُتب للرواية أن تُعنون بعنوان بديل، لكان الغفران اختيارًا دقيقًا ومكثفًا وعميقًا فالغفران لا يُمنح بسهولة في هذا العمل؛ هو ليس وعدًا سماويًا، بل هو صراع داخلي، طريق شائك يمرّ بالاعتراف والوجع والخلع التام للأقنعة.
نورا وريان كلاهما لا يطلب الصفح من الآخرين، بل من الذات! كأن الرواية كلّها لا تقول لنا فقط (احكوا آثامكم)، بل تقول: (تقبّلوها، وافتحوا نوافذكم للضوء). ختامًا مقعد رقم 17″ ليست رواية عابرة تُقرأ في جلسة واحدة وتُنسى.
بل هي تجربة شعورية، تتسلّل إلى الداخل، وتفتح باب التأمل في أعمق ما في الإنسان من جراح لا يصفى منه أبدًا .
قدمت الكاتبة إسراء الوزيرعملا ممتعًا يستحق القراءة؛ لأنها تجرّأت أن تقول ما لا يُقال، وكتبت لا لتُرضي العامة والمجتمع حيث نظرته للخطيئة، بل لتُواجه حقيقة أن بني آدم مذنب بطبيعته البشرية، ففي نهاية الرحلة، لم أغلق الرواية فحسب، بل فتحت في داخلي نافذة على نافذة الغفران، لتنهي الرحلة بتاريخ ١١ مايو ٢٠٢٥، لكن القطار لا يزال يسير.
