اختيارات القاطرة| «الرحيل إلى غرناطة».. قصة قصيرة لـ سعيد بحيرة
اختيارات القاطرة| «الرحيل إلى غرناطة».. قصة قصيرة لـ سعيد بحيرة
تسعى «منصة القاطرة» إلى استكشاف عالم القصص القصيرة وتختارها بعناية، ليجد القارئ فيها ما يثري فكره، ويمتع خياله، ويلامس مشاعره، وتحمل على عاتقها مهمة اختيار أفضل القصص القصيرة وتقديمها لجمهور القراء المتعطش للأدب الراقي، تتميز هذه القصص المختارة بعدة سمات تجعلها تستحق القراءة، لأنها تتسم بالتنوع الموضوعي، والإبداع اللغوي، العمق الفكري، البناء الفني المحكم، والأصالة والابتكار، والتأثير العاطفي، والإيجاز والتكثيف، وبعضها يكون لكبار الأدباء.
قصة اليوم بعنوان «الرحيل إلى غرناطة».. قصة قصيرة للدبلوماسي التونسي سعيد بحيرة، وقد نشرتها مجلة المسار في عددها الصادر في 1 يونيو 1992. تدور القصة حول شخصية محمد، طالب عربي، يلتقي براكال الأندلسية في حفلة ويقع في حبها، تنمو علاقتهما عبر حوارات عميقة، لكن راكال تقرر إنهاء العلاقة قبل عودتها إلى إسبانيا، فماذا سيفعل محمد؟
نص القصة:
قال لها: إنك تشبهين كثيرًا زميلتي في الدراسة واسمها سميرة إنها جميلة العينين مثلك تماما فابتسمت وقالت: غريب هي الصدف ولكنّها حقيقة إن أصدقائي في جامعة مدريد ينادونني سميرة لأن قسماتي عربية كانت هذه هي بداية الحوار بين راكال الأندلسية ومحمد العربي الذي كثيرا ما يفتخر بأصوله الهلالية، تعرف عليها وهو بين اليقظة والحلم كانت أنغام الموسيقى الشعبية ورائحة السقائر والصخب المتقطع قد جعلته يرقص بسهولة ويتحدث بطلاقة رآها تهتز في جلبابها الشرقي المطرز ولكنها لا تحسن الرقص، لها عينان واسعتان سوداوان ووجه باسم الثغر ومرح الملامح، اقترب منها لما غادرت جمع الراقصين واتكأت على حائط المشرب وسألها عن جنسيتها فقالت: «إسبانية» بلغة عربية سمحة، إنها طالبة في الدراسات الشرقية جاءت تنشد مزيد الأحكام في امتلاكها للغة وكان هو طالبا على عتبة التخرج ذكرته هذه الفتاة بخليط عجيب من الأشياء الأندلس وطارق بن زياد وغرناطة وغرتيكا والطقس الجميل ودون كيشوت وطواحين الريح والحرب الأهلية.
وفي لحظات سريعة نظر في عينيها مليا فدخلت قلبه تلك الفتاة التي فيها من العرب بقايا ومن الغجر ثوابت ومن الشباب نضارة، كان الصمت رهيبا يخيم على كل الحي الذي يسكنه الأثرياء وكبار الملاكين وكانت رائحة الياسمين تعبق من الأجنة المحيطة بالمنازل الفخمة وتملأ الفضاء وكان محمد يبحث عن مدخل إلى حديث يريده بدون نهاية نظر حواليه وسألها هل توجد في مدريد أحياء ثرية مثل التي ترينها في بلدي؟ قالت: هناك أغنياء كبار ولكن المنازل هنا أجمل وتبدو أكبر من التي تبنى عندنا كانت دروس الجغرافيا الحضرية لا تزال عالقة ببال محمد وهو الخريج الجديد يتذكر جيدا مدينة ساو باولو والقاهرة والدار البيضاء ومكسيكو والتناقض العجيب الذي تحتويه بين الأحياء الحمراء وأحياء الترف والرخاء، لذلك إنطلق يحاضر عن أصول الحي وسكانه، كانت تسمعه في انتباه وقد فهمت أنه مثل كل شبان البلد غارق في السياسة إلى أذنيه، تأكدت من ذلك لما سألها عن فرانكو ولكنها التفتت إلى السماء وقالت: الطقس جميل أليس كذلك؟ أعجبته طريقة نطقها للألفاظ العربية وأدرك أن مدخل الحديث ممض، وضع يده على يدها وقال: «كل فصول الصيف رائعة في بلدي، إننا نزاحمكم في جلب السواح» فانحنت قليلا إلى الوراء وأعادت: الطقس جميل هه!؟ نظر محمد في عينينها مليا وقال: «إنك فاشية» فاندهشت راکال وضحكت في تعجب «فاشيستا؟ ولماذا كل هذا السباب؟» قال بكل ثقة: «نعم إنك تمنعيني حتى من لمس يدك وهذا قمع وإرهاب» لقد كان ذكيا في استدراجها ولكنه يخلط بين السياسة والحب والحرب وهو ما أعجب الإسبانية فتركت رأسها يرتاح على كتفيه، قال محمد: «رحم الله فرانكو لقد أعانني على فتح قلبها» واستمر الحوار .
إنطلق صوت المؤذن ينبيء بصلاة الفجر فقطع حبل السكون فقالت راكال: «يجب أن تذهب إلى بيتك الآن إنني أدرس في الساعة الثامنة» جمع محمد أدباشه وأخذ حذاءه في يده ونزل إلى بيته على أطراف أصابعه حتى لا يقلق النائمين، تعددت ليالي الحديث الطويل محتوية شاعريتين عريقتين في الأساطير والعشق، وأصبح الخوف ينتاب راكال من هذا الشاب الذي فاز بحبها أحست أنه يتعلق بها كل يوم أكثر وهي التي سترحل بعد أيام إلى مدريد قررت أن تعمل على تقليص العلاقة إلى حدود المعرفة العابرة لكن محمد يحب بسهولة وينسحب بصعوبة، قال لها إنه يراها في اليقظة ويحس بها تملأ لا وعيه أين تنام الأندلس على أرضية صحراوية.
ضمها بقوة إلى صدره وطبع قبلة على وجهها الهادىء إنها لا تنفعل بسرعة رغم حرارتها البشرية الكبيرة، لكن راكال أخرجت دمعتين من عينيها الجميلتين إنسابتا بلطف على خديها وقالت بصوت خافت لكنه حاسم: «إن الحب بيننا مستحيل إنني أبعد عنك آلاف الكيلو مترات، وسأظل أتذكرك إلى الأبد لأنني أعطيتك من ذاتي بعضها»، ثم أضافت: في دعابة «أرحل عني كما رحل الأجداد عن غرناطة».