د.عادل القليعي يكتب :أسبقية العقل على الإيمان عند القديس توما الإكويني
أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان
لا شك أن أرسطو ترك بصماته واضحة لا أقول على فكر فلاسفة العرب والمسلمين وحسب، وإنما عقلانيته امتد أثرها إلى فلاسفة العصر الوسيط ولا سيما فلاسفة المسيحية.
بل وأكاد أجزم أن جل فلاسفة المسيحية تأثروا به حتى وإن لم يكن هذا التأثر مباشرا لكنهم تأثروا به عن طريق تلاميذه المشائيون العرب وخصوصا في شروحات ابن رشد الكبرى والوسطى والصغرى والتي امتد أثرها إلى المدرسة اللاتينية في العصر الوسيط.
أما مسألة جدلية العلاقة بين العقل والقلب، أو بين الفلسفة والنقل فستظل هذه المشكلة شغل الفلاسفة حتى في عصرنا الحالي، فهل ثم تعارض بين العقل والنقل.
فإنه على الرغم من أن الكندي دفع بكل ما أوتي من قوة شبهة التعارض بينهما، وكذلك شيخ السلفيين ابن تيميه دفع هذا التعارض في كتابه درء تعارض العقل والنقل.
وكذلك أبو زيد البلخي وأبو سليمان السجستاني المنطقي وتلميذه أبو حيان التوحيدي، وأبو زيد البلخي تلميذ الكندي وابن رشد في كتابه فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من إتصال، وشيخ الإسلام الإمام محمد عبده في رسالته المشهورة رسالة التوحيد، إلى وقتنا فوجدنا زكي نجيبه محمود يدفع هذه الشبهة.
لماذا لأن كليهما أثران من أثر الكامل سبحانه وتعالى ،فكيف يتعارضان ومنبعهما واحد، الدين من عند الله والعقل هبة من عنده تعالى.
إلا أن فلاسفة المسيحية كان لهم رأي في المسألة لا أقول رأي معارض على طول الخط ولا مؤيد على طول الطريق.
القديس أوغسطين
وإنما وجدنا القديس أوغسطين يرفض هذا الاختلاف والتضاد بينهما فالحق لا يضاد الحق بل يؤيده ويشهد له ، نعم هي عبارة أبي الوليد بن رشد ، لكن تمثلها أوغسطين وأعاد إنتاجها مرة أخرى في حديثه عن مسألة الإيمان ، هل الإيمان يسبق العقل أم العقل يسبق الإيمان، هل أؤمن لأتعقل أتعقل، أم أتعقل لأؤمن.
وفي كلتا الحالتين ليس ثم رفض سواء للعقل أو للدين فكلاهما في حاجة إلى الآخر فلا يكتمل دين دون تعقله، ولا عقل دون دين يزيينه، فما دخل الدين في شيئ إلا وزانه وما خلا شيئ إلا شانه.
لكن القديس توما الإكويني له رأى آخر في المسأله.
لكن قبل الحديث عن هذا الرأي نقدم ترجمة مختصرة عن فيلسوفنا رائد الإتجاه العقلاني في الفلسفة المسيحية القديس توما الإكويني.
أما عن حديثه عن العلاقة بين العقل والنقل فنجده قد فصل بينهما، لكن هل يا ترى قدم أحدهما على الآخر
في حديث توما الإكويني عن أيهما يسبق الآخر الإيمان أم العقل، وجدنا عقلانيته ومذهبه الرشدي واضحا فقد عالج المسالة معالجة عقلانية أتعقل لأومن لماذا لأزداد إيمانا ، بمعنى نتعقل الدين، ندرس الدين دراسة شافية عافية، كل صغيرة وكبيرة من أجل ماذا من أجل التسليم والإيمان.
لكن دعوني أطرح عليه سؤالا ،هل كل ما يقدمه المعتقد يخضع للبحث والدرس العقلي ؟!
نقول ليس كل ما نؤمن به نناقشه بعقلانية فثم قضايا ميتافيزيقية يجب التسليم بها والإيمان بها دون الخوض في مناقشتها لماذا لأن عقولنا قاصرة عن إدراك كنه الحقيقة كاملة ومن ثم وجب الإيمان والتسليم بها كحقيقة الذات الإلهية مثلا.
فصل الإكويني بين العقل والنقل وحدد لكل منهما مهامه، ورأى أن للعقل ميدان وللنقل ميدان آخر ، وهما مختلفان سواء من حيث المنهج، فمنهج العقل البحث والنقد والتأمل والمقارنة، أما منهج النقل فهو التسليم .
وإن كنت أرى أنهما حتى لو اختلفا على حد زعمه في المنهج إلا أنهما غايتهما واحدة ألا وهي الوصول إلى الغاية العظمي إدراك كنه الحقيقة وتحقيق السعادة للإنسان.
ذهب الإكويني إلى أنهما اختلفا في المنهج لأن العقل يشتق مبادئه مما غرس فيه من مبادئ عقلية ولا يهيب إلا بسلطان العقل.
وعلى العكس منه نجد النقل يلجأ إلى ثلاثة طرق ، ما أتى به الوحي مسجلا في الكتب المقدسة ، إلى كل ما يتفق والكمال الإلهي، وإلى كل ما يتفق مع القدرة الإلهية.
وكذلك يختلف العقل مع النقل لأن العقل يبدأ من المحسوس صعودا إلى العالم المعقول، والعكس يبدأ الدين من أعلى نزولا إلى الأسفل أي من الله لكي يصل إلى المحسوس، ويرى أن ذلك هو الطريق الأفق.
راجع د. عبد الرحمن بدوي:فلسفة العصور الوسطى ص١٣٧.
هو في هذا الطرح جمع بين فكر أرسطو الذي أعلى من شأن العقل الذي جعل طريقه في الوصول مختلف عن النقل.
كذلك ذهب إلى فكر أفلاطون في جدليه الصاعد والهابط للوصول إلى كنه الحقيقة
لكن نرى أنه حتى وإن كان العقل في سبيل الوصول إلى كنه الحقيقة يسلك صعودا من المحسوس متدرجا في مدارج ومسالك الكمال إلى أن يصل إلى غاية مرامه الوصول إلى الحق.
كذلك النقل حتى وإن اتخذ مسلكا هبوطيا من الأعلى إلى الأدني.
أليست الغاية واحدة ألا وهي الوصول إلى الحق من خلال الموجودات الحسية ومن الذي يهيمن على هذه الموجودات ويدبر لها أليس الحق التام والعلة الفاعلة، فأين الاختلاف بينهما.
قد يكون الاختلاف في الطريق لكن الهدف واحد الوصول إلى اليقين المعرفي.
توما الإكويني
توما الإكويني ،ولد في أواخر عام ١٢٢٤م، أو أوائل عام ١٢٢٥م على أرجح الأقوال بالقرب من مدينة نابولي الإيطالية في مدينة تسمى Boccasecca، والتحق بالخدمة الدينية عام ١٢٣٠م، ثم درس بالجامعة عام ١٢٣٩م في إيطاليا.
والتحق بطريقة الآباء الدومينيكان عام ١٢٤٤م، وفي عام ١٢٤٨م التحق بجامعة باريس حيث تلقى علومه على يد القديس ألبرت الأكبر، حصل على إجازة اللاهوت عام ١٢٥٦م، ثم عاد إلى التدريس بإيطاليا واستمر يدرس في جامعاتها، في روما، فرتبو ، وأرفيتو، حتى توفي عام ١٢٧٦م.
له العديد من المؤلفات منها مؤلفات في عهد الشباب وأهمها كتاب الوجود والماهية.
ومن مؤلفاته المهمة الخلاصة اللاهوتية ،والخلاصة ضد الكفار ،وشروحاته على مذهب أرسطو ، وكتاب المسائل.
راجع عبد الرحمن بدوى:فلسفة العصور الوسطى ص١٣٢-١٣٣.