قاطرة الكلمة

بريهان أحمد تكتب: يوميات نائب في الأرياف وسرد الواقعية السحرية القاسية للريف المصري

بريهان أحمد & كاتبة وناقدة أدبية

رواية “يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم إحدى الأعمال الأدبية الخالدة التي تجسِّد ببراعة صورة الريف المصري بما يحمله من تناقضات بين جمال الطبيعة وسحرها وبين قسوة الحياة اليومية وليلها الشجي. منذ صدورها في عام 1937، جذبت الرواية انتباه الأدباء والقراء عالميًا، بفضل وصفها الدقيق وتصويرها الواقعي للحياة الريفية. وذلك من خلال قدرة أدبية فذة، يعرض الحكيم مأساة الإنسان الريفي المهمش في ظل قانون مستورد لا يعترف بالإنسانية، مقدّمًا نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا بأسلوب بسيط وسلس يعكس عمق فكر الكاتب وبلاغته.

تُعَدُّ “يوميات نائب في الأرياف” من أهم الأعمال الإبداعية التي صورت الريف المصري بجماله وسحره وليله الكئيب الشجي في الوقت ذاته، وقد صدرت الرواية عام 1937م، وتم نشرها وترجمتها إلى اللغة الفرنسية عام 1939م، وترجمت ونشرت باللغة العبرية عام 1945م، وإلى الإسبانية،والإنجليزية، والألمانية، والروسية،كلُّ هذا العدد الهائل من الترجمات يدل على براعة الوصف عند الحكيم،وأهمية أعماله عالميًا.

كلمّا شعرتُ بالضجر والملل ذهبت إلى أحد أعمال توفيق الحكيم لا لأحد غيره؛ كاتب يتميز بإحساسه الصادق المرهف، ومدى هذا الإحساس من الصدق يكمُن في بلاغة التصوير والعمق في الفكر، وعرض قضايا المجتمع دون خوف، أو مبالغة، بطريقة سلسة وبسيطة، فيها الكثير من الفكاهة التي تتميز بها جميع أعماله.

ورغم أن الرواية بها الكثير من الألم والوجع الذي يشمل القرية المصرية القديمة، التي لا ينظر فيها إلى الإنسان بعين الرعاية والاهتمام من قبل الدولة والحكومة، ولا حتّى القانونالذي يمثله هذا النائب، بل ويطبقه؛ لأنهقانون جاهز ومستورد من الخارج،خالٍ من الإنسانية والرحمة؛لحظتها نستشعر الغضب واليأس؛لكن بسبب براعة تصوير كل المشاهد،من بداية الورق والخشب، إلى الفأر الذيفي وجودهالمؤانسة والمجالسة في حياة النائب ليلًا في غرفته،يجعلنا في قمة السعادة؛ لأننا نستحضر الماضي الذى مر عليه الكثير من السنوات في ورقة إنسانية تحمل اسم جنس الرواية العربية. 

تحتوي الرواية على الكثير من الشخصيات التي تجعلك تستشعر القرية من قرب أكثر؛مثل:المأمور والقاضي، اللذين يستخدمان منصبهما لمصالحهما الشخصية على حساب أهل القرية، والشيخ: “عصفور”، وهو رجل شريد لديه أغنية واحدة لا يغني سواها،الذي كان ملازمًا دائما للحوادث، ويعمل في الدعايات الانتخابية، بل ويوظفه المأمور ورجال الانتخابات في ذلك، فهورجل شريد خفيف العقل، هنا تنتصر المصالح الشخصية على القيم والقانون والمفروض وغير المفروض.

أمَّا الفتاة الجميلة “ريم” الذي كان جمالها يسحر قلوبهم، وكان موتها فيه الكثير من الغموض؛ حيث لم يستطع أحد كشف ملابساته؛إضافة لذلك هي تمثل جمال المرأة القروية في ثوب البساطة، وثوب الضحية التّي ينشغل عن موتها الجميع في ظل الانتخاباتالتي تُهدد حياة المسؤولين، فتذهب روح الإنسان سُدى مقابل الحياة البرلمانية.

كان للموت نصيبٌ كبيرٌ في الرواية؛لأن الحكيم صوره عندما استُدعي الطبيب الشرعي لتشريح جثة زوجة “علوان”؛ للتأكد من سبب الوفاة، هنا يظهر موت المشاعر وجفاف الدموع في عيون الطبيب، واللحاد، وفي قلبه هو الآخر تأكيدٌ على أن الإنسان عندما يعتاد على رؤية الأموات والجثث يموت في قلبه شيء من الإحساس: “…لماذا لم يعد منظر الجثث أو العظام يؤثر في مثلي وفي مثل الطبيب، وحتى في مثل اللحاد أو الحراس هذا التأثير؟يخيَّل إلى أن هذه الجثث والعظام قد فقدت لدينا ما فيها من رموز، فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجر، إنها أشياء تتداولها أيدينا في عملنا اليومي”.

يقول “رمون فرنانديز” في جريدة: “ماريان” يوم 9 أغسطس سنة 1939 عن يوميات نائب في الأرياف: “إنها صورة حياة، ساخرة، قاسيةأحيانًا لدنيا الريف المصري، وإن هذه الدنيا لتتحرك في صفحات هذا الكتاب في حيوية مدهشة تجعل القارئ ينسى أحيانًا المقاصد الإصلاحية التي حركت توفيق…، فإن الذي يعلق بذاكرة القارئ هو قوة السرد، والخلق، والإبراز، والصدق، ودقة الملاحظة، والقلق، والقدرة في إدارة القصة، على أن توفيق الحكيم إنما يكتب ليحتج وينفد ويهتم..”،أكد هذا الرأيإحساسي عندما قرأت الرواية؛لأنني منذ مدة ليست بعيدة قرأت “الفقراء” لديستويفسكي، وتوقفت عن القراءة لمدة لرغبتي في قراءة رواية تُشبه براعتها في الوصف والتصوير، ورغم قراءة القليل من الأعمال بعدها وقع اختياري على توفيق الحكيم رائد المسرح العربي الحديث، ووجدتُ في الرواية القدرة على صياغة الأفكار والمعاني بصورةمُحكمة، حتّى في وصفه عن الكتابة والقلم في حياة الريف المصري:”…هذ الريف… إن القلم لنعمة لأمثالنا ممن كُتَبت عليهم الوحدة؛ ولكن القلم كالجواد ينطلق أحيانًا من تلقاء نفسه كالطائر المرح،وأحيانًايحزن ويثب على قدميه ويأبى أن يتقدم كأن في طريقه أفعى رافعة الرأس…”؛ لذلك هو من وجهة نظري ديستويفسكي العرب.

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button