سعيد البسطويسي يكتب: أقوال المفسرين في دلالات ذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف
د. سعيد البسطويسي & أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية كلية الآداب – جامعة عين شمس
تعودت نشر بعض الفوائد التي أقتنصها أثناء قراءتي، لا سيما تلك الفوائد التي أقتنصها من كتب التراث لغزارة فوائدها ودقتها، وقد نشرت أمس فائدة لطيفة وقفت عليها في كتاب البداية والنهاية لابن كثير بشأن ذكر كلب أصحاب الكهف، خلاصتها أن الله جعل لهذا الكلب في كتابه العزيز ذكرًا باقيًا إلى يوم الدين بشرف صحبته للأخيار الأطهار.
فاعترض بعض الفضلاء فقال: “هذا استخلاص غير مقبول، وفساد في الاستدلال، لأن ذكر الكلب كان ضرورة لرواية القصة، وفي عالم الحيوان لا فضل لحيوان على آخر ، لأن المصير واحد، وهو التراب”. وهو كلام يبدو وجيهًا للوهلة الأولى أو لمن لا يتلبث مليًا عند الفائدة المنشورة، إلا أن المتأمل المتدبر سيشعر على الفور أن الحكم على قول ابن كثير بأن استدلال فاسد هو نفسه حكم فاسد يفتقر إلى المرانة الكافية لتدبر قصص القرآن الكريم. وبيان ذلك أن وجود الكلب لا يضيف شيئًا ذا بال للعناصر الأساسية لقصة أصحاب الكهف، ولو لم يرد له ذكر لكانت القصة دالة -كما هي- أشد الدلالة على المعزى الذي ساقها من أجل الله جل اسمه في كتابه العزيز، إذ القصة القرآنية ليست مجرد قصة للتسلية والإمتاع، بل إن كل عنصر من عناصرها يأتي لغاية دقيقة ولفائدة حكيمة يهدي الله إليها من يشاء من عباده.
ومن هنا فلا بد من وجود فائدة جلية في ذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف، وكعادتي قبل أن أدلي في أي مسألة برأيي فإني لا أتكلم إلا بعد أن أستوفي ما ذكره العلماء فيها؛ فإن وجدت ما قالوه كافيا نقلت أقوالهم، وإن لم يكن كافيا فإنني أجتهد قدر طاقتي، لذا فقد طفقت أتصفح كتب التفسير لمعرفة ما سطره سادتنا المفسرون حول دلالات ذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف في تفسيرهم لقوله تباركت آلاؤه (وَكَلۡبُهُم بَـٰسِطࣱ ذِرَاعَیۡهِ بِٱلۡوَصِیدِۚ )؛ فوجدت فيضًا من الأقوال البارعة المؤيدة بدلالات الوحي المنطلقة من الذوق السليم والحس الرهيف في تناول كلام العليم الخبير.
فمن ذلك قول ابْن عَطِيَّةَ في المحرر الوجيز: وَحَدَّثَنِي أَبِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ فِي جَامِعِ مِصْرَ يَقُولُ عَلَى مِنْبَرِ وَعْظِهِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ: إِنَّ مَنْ أَحَبَّ أَهْلَ الْخَيْرِ نَالَ مِنْ بَرَكَتِهِمْ، كَلْبٌ أَحَبَّ أَهْلَ فَضْلٍ وَصَحِبَهُمْ فَذَكَرَهُ اللَّهُ في محكم تنزيله. قلت: إذ كَانَ بَعْضُ الْكِلَابِ قَدْ نَالَ هَذِهِ الدَّرَجَةَ الْعُلْيَا بِصُحْبَتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ الصُّلَحَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ حَتَّى أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ جَلَّ وَعَلَا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين الْمُحِبِّينَ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ بَلْ فِي هَذَا تَسْلِيَةٌ وَأُنْسٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُقَصِّرِينَ عَنْ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ، الْمُحِبِّينَ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَآلِهِ خَيْرِ آلٍ”.
وقال ابن كثير في تفسير القرآن العظيم: “وَشَمَلَتْ كَلْبَهُمْ بَرَكَتُهُمْ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ النَّوْمِ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. وَهَذَا فَائِدَةُ صُحْبَةِ الْأَخْيَارِ؛ فَإِنَّهُ صَارَ لِهَذَا الْكَلْبِ ذِكْرٌ وَخَبَرٌ وَشَأْنٌ”.
وقال البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: “وذِكْرُ هَذا الكَلْبِ عَلى طُولِ الآبادِ بِجَمِيلِ هَذا الرُّقادِ مِن بَرَكَةِ صُحْبَةِ الأمْجادِ”. وعن ابن كثير نقل الشنقيطي في اضواء البيان وزاد فقال: “اعْلَمْ أنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وعَلا في كِتابِهِ هَذا الكَلْبَ، وكَوْنَهُ باسِطًا ذِراعَيْهِ بِوَصِيدِ كَهْفِهِمْ في مَعْرِضِ التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِمْ، يَدُلُّ عَلى أنَّ صُحْبَةَ الأخْيارِ عَظِيمَةُ الفائِدَةِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: وشَمَلَتْ كَلْبَهم بَرَكَتُهم، فَأصابَهُ ما أصابَهم مِنَ النَّوْمِ عَلى تِلْكَ الحالِ، وهَذا فائِدَةُ صُحْبَةِ الأخْيارِ، فَإنَّهُ صارَ لِهَذا الكَلْبِ ذِكْرٌ وخَبَرٌ وشَأْنٌ.
بل إن من علماء السلف من ذهب إلى أن هذا الكلب سيدخل الجنة ببركة هذه الصحبة الطيبة فقال الآلوسي في روح المعاني: “فعَنْ خالِدِ بْنِ مَعْدانَ: لَيْسَ في الجَنَّةِ مِنَ الدَّوابِّ إلّا كَلْبُ أصْحابِ الكَهْفِ وحِمارُ بَلْعَمَ، ورَأيْتُ في بَعْضِ الكُتُبِ أنَّ ناقَةَ صالِحٍ وكَبْشَ إسْماعِيلَ أيْضًا في الجَنَّةِ، ورَأيْتُ أيْضًا أنَّ سائِرَ الحَيَواناتِ المُسْتَحْسَنَةِ في الدُّنْيا كالظِّباءِ والطَّواوِيسِ وما يَنْتَفِعُ بِهِ المُؤْمِنُ كالغَنَمِ تَدْخُلُ الجَنَّةَ عَلى كَيْفِيَّةٍ تَلِيقُ بِذَلِكَ المَكانِ وتِلْكَ النَّشْأةِ، ولَيْسَ فِيما ذُكِرَ خَبَرٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِيما أعْلَمُ، نَعَمْ في الجَنَّةِ حَيَواناتٌ مَخْلُوقَةٌ فِيها، وفي خَبَرٍ يُفْهَمُ مِن كَلامِ التِّرْمِذِيِّ صِحَّتُهُ التَّصْرِيحُ بِالخَيْلِ مِنها. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ وقَدِ اشْتُهِرَ القَوْلُ بِدُخُولِ هَذا الكَلْبِ الجَنَّةَ حَتّى إنَّ بَعْضَ الشِّيعَةِ يُسَمُّونَ أبْناءَهم بِكَلْبِ عَلِيٍّ ويُؤَمِّلُ مَن سُمِّيَ بِذَلِكَ النَّجاةَ بِالقِياسِ الأوْلَوِيِّ عَلى ما ذُكِرَ ويُنْشِدُ:
فِتْيَةُ الكَهْفِ نَجا كَلْبُهُمُ كَيْـــــ ـــــــــفَ لا يَنْجُو غَدًا كَلْبُ عَلِيْ
ولَعَمْرِي إنْ قَبِلَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ كَلْبًا لَهُ نَجا، ولَكِنْ لا أظُنُّ يَقْبَلُهُ لِأنَّهُ عَقُورٌ”. وقد أورد البغوي في معالم التنزيل الجملة الأولى من كلام خالد بن معدان.
ومن هنا يتبين أن للمفسرين رحمهم الله تعالى نظرات دقيقة في إيراد الكلب في قصة أصحاب الكهف.
وما أوردته آنفًا إنما هو في دلالات ذكر الكلب في القصة، وأما ما دار من كلامهم حول الكلب نفسه فكثير جدًا، فمن ذلك أنهم اختلفوا هل المراد به كلب حقيقي أم أسد، ووورد عن جعفر الصادق قراءة (كالِبُهُم) أي صاحب الكلب، واختلفوا كذلك أهو كلب لأحدهم أم هو كلب تبعهم، وهناك من الآثار ما يشير إلى أن الله أنطقه كي يصحبوه معهم. بالإضافة إلى الاختلاف الواسع في اسمه ولونه، وقد أفرد لها السيوطي رسالة خاصة بها. كما أن في الآية مسألة نحوية دقيقة، وهي إعمال اسم الفاعل عمل الفعل إذا دالا على الماضي، لأن من شروط إعماله عند جمهور النحاة أن يدل على المستقبل. وهناك خلاف واسع في معنى الوصيد في الآية.
وهكذا فأنت ترى أن مجرد فائدة لطيفة جاءت عرضا، أفضت إلى جمع هذه الأقوال والتعرض لهذه المباحث اللطيفة الدقيقة في علم التفسير. لذا فالشكر موصول لهذا الصديق الفاضل الذي اعترض على هذه الفائدة، لأن اعتراضه انتهى إلى هذه النتائج المفيدة الرهيفة التي استنبطها المفسرون رحمهم الله من هذه الآية ومن أقوال السلف حولها. والله أعلم.