د.عبير بسيوني تكتب : عصر العلامات ومستقبل مصر
قوة الهوية والثقافة والثقة بقيمة اقتصادية مضافة نعيش اليوم فيما يُطلق عليه “عصر العلامات” (The Age of Brands)، وهذا ليس شعار جديد، حيث تجاوزت العلامات التجارية والخدمية والحضارية دورها التقليدي كمجرد مُعرِّفات للمنتجات أو الخدمات، لتصبح كيانات ثقافية واجتماعية واقتصادية قائمة بذاتها، تحيط بنا وتؤثر في خياراتنا وقيمنا وحتى هويتنا. ومن هنا أهمية إنشاء علامات ثقافية فاعلة أصبحت ضرورة استراتيجية تعبر عن قوة الهوية والثقافة والثقة.
العلامة في هذا العصر
العلامة في هذا العصر، هي قصة نرويها، وقيمة نؤمن بها، ورؤية وتجرية ومجتمع ننتمي إليه. نحن في زمن لم يعد فيه السؤال “ماذا تبيع؟” بل “ماذا تمثل؟”.
العلامة اليوم هي وسيلة للتواصل، وللإلهام، وللتأثير. في عصر العلامات، من يملك علامة قوية، يملك صوتًا مسموعًا، ومكانة راسخة، وقدرة على التغيير.
باختصار عصر العلامات هو عصر التحول من المنتج إلى المعنى. وهكذا اصبحنا نرى علامات تجارية تتبنى قضايا اجتماعية، وتدافع عن قيم إنسانية، وتشارك في تشكيل الوعي العام.
وعبرت العلامات الحدود التجارية والخدمية الي الثقافية، فمن التجارة إلى التأثير، ولم تعد العلامات تقتصر على المنتجات والخدمات، بل أصبحت علامات ثقافية تعبّر عن أفكار، وتوجهات، وأنماط حياة.
وظهرت العلامة الثقافية التى هي مرآة للمجتمع، وتساهم في بناء الهوية الثقافية للأفراد والجماعات.
ففي عالم اليوم، لم تعد العلامة التجارية والخدمية والثقافية مجرد اسم أو شعار يميز منتجًا عن غيره او أداة تسويقية، بل هي أصول استراتيجية حيوية تبني الثقة، وتخلق قيمة اقتصادية هائلة، وتشكل هويات وتجارب.
وقد أصبحت كيانًا حيًا ينبض بالهوية، ويعكس القيم، ويؤثر في الثقافة والسلوك، حيث تتجاوز العلامة حدود التجارة لتصبح جزءًا من الحياة اليومية، بل وحتى من الهوية الشخصية والجماعية.
وإنشاء العلامات القوية والفاعلة، ليس ترفاً، بل استثماراً في الاصول الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، ويعد جوهر الهوية المجتمعية، في الحوار الإنساني، وفي بناء تراث مستدام للأجيال القادمة. إنها علامات لا تروّج لمنتجات فحسب، بل تروّج لرؤى وقيم وروح إنسانية مشتركة، مما يجعلها ضرورة ملحة في تشكيل ملامح عالمنا الحاضر والمستقبل.
ومصر تزدهر بالأفكار للمستقبل النابعة من تراثنا وحضارتنا المميزة التى تتجلى فيها عبقرية الأجداد التي نستلهم منها الحكمة والإلهام، بروح المجتمع المصري التي تمتد عبر الأجيال، الحافل بالقصص والتقاليد والعادات والاختراعات والابداعات التي تعكس هويته وثقافته. وبالتالي ف”علامة مصر” المأمولة ليس فقط ثقافية ولكن خدمية وتجارية وصناعية ومؤسسية وتكنولوجية.
وبشكل عام فإن العلامات ذات أهمية متعددة الأبعاد أهمها:
بناء الثقة والتمييز في بحر المنافسة بمختلف مجالاته؛ فالعلامات التجارية (للمنتجات) في سوق يفيض بالخيارات، تعد هي البوصلة التي توجه المستهلك. هي وعد بالجودة والاتساق والموثوقية. والعلامات الخدمية تعبير أكبر عن الحاجة للثقة، لأن الخدمة غير ملموسة قبل الشراء.
فالعلامة القوية تطمئن العميل على جودة الخبرة والكفاءة المهنية، فالبنك المتميز الخدمات علامة، والمستشفى ذات السمعة الطبية علامة، والجامعة الرائدة ريادة. اما العلامات الثقافية فهي حفاظ للتراث واحياء له، ومن هنا ظهرت العلامات الثقافية للدول كالمغرب ولمكونات الحضارة (المتاحف، المهرجانات، المبادرات الفنية، الرموز التراثية) والتى تبني ثقة الجمهور في قيمتها وقدرتها على تقديم تجربة أصيلة ومثرية.
خلق قيمة اقتصادية هائلة بإستحداث أصول غير ملموسة؛ حيث أصبحت قيمة العلامة التجارية القوية نفسها غالباً تفوق قيمة الأصول المادية للشركة. فهي تسمح بفرض أسعار أعلى (هامش ربح أكبر)، وتزيد ولاء العملاء، وتسهل دخول أسواق جديدة.
وبجذب الاستثمار؛ فالعلامات القوية تجذب المستثمرين والمواهب، وتزيد من قيمة السهم. كما ان العلامات الثقافية هي موارد اقتصادية، فالمدن والدول تستثمر في علاماتها الثقافية (متاحف عالمية، مهرجانات دولية، مواقع تراثية) لجذب السياحة، وتحفيز الاقتصاد الإبداعي، وتعزيز الصورة الدولية.
تشكيل الهوية والتجربة؛ وحيث أن العلامة للشركة مثلا تعبر عن هويتها وجوهر المؤسسة، قيمها، رؤيتها، وشخصيتها. هي وعودها للعالم.
وكذلك تعبر العلامة عن هوية المستهلك، فقد أصبحت العلامات التي نختارها جزءاً من تعريفنا لأنفسنا وللآخرين. نعبر عن قيمنا، انتماءاتنا، وطموحاتنا من خلال ارتباطنا بعلامات معينة (الملابس، التكنولوجيا، السيارات).
وهي تجربة متكاملة، فالعلامة القوية لا تبيع منتجاً، بل تبيع تجربة شاملة – من التفاعل مع الموقع الإلكتروني، إلى خدمة العملاء، إلى تغليف المنتج، إلى شعور المستخدم أثناء الاستخدام وما بعده.
بناء الانتماء ومجتمعات وولاء؛ فتبنى العلامة القوية علاقة عاطفية مع الجمهور، حيث تجمع العلامات القوية حولها مجتمعات من المؤمنين بها (Brand Communities).
يشعر الأفراد بالانتماء لمجموعة تشاركهم نفس القيم والاهتمامات بفضل العلامة (مشجعو نادى، عشاق نوع من القهوة، متابعو مهرجان سينمائي معين).
هذا الولاء يترجم إلى دفاعات قوية عن العلامة، وتوصيات مجانية (Word-of-Mouth)، ومقاومة أكبر للمنافسة.
العلامات الثقافية هي حجر الزاوية في الهوية المجتمعية والإنسانية، بها يتم حفظ التراث وتعزيزه، فالعلامات الثقافية تحمي وتُحيي التراث المادي وغير المادي، وتجعله متاحاً للأجيال الحالية والقادمة (المتاحف الوطنية، المواقع الأثرية المسجلة عالمياً). ومن خلالها يتم تشكيل السرديات وصناعة المعنى، فالعلامات الثقافية (المتاحف، المهرجانات، المؤسسات الفنية، المشاريع الأدبية) تخلق مساحات للحوار، وتعكس هوية المجتمع، وتطرح أسئلة وجودية، وتشكل فهمنا للعالم ولأنفسنا.
الاستمرارية والتوسع:
العلامة القوية تتيح التوسع في الأسواق الجديدة، وتُسهل إطلاق منتجات وخدمات جديدة تحت مظلتها. فالعلامة جسر للتواصل والحوار، والعلامات الثقافية القوية (مثل الأوبرا، بينالي الفنون، المهرجانات المسرحية) تعبر الحدود، وتجذب جماهير متنوعة، وتخلق لغة مشتركة للإبداع والفهم المتبادل. وهي محرك للتنمية المستدامة، فالاستثمار في العلامات الثقافية يساهم في تنويع الاقتصاد، وخلق فرص عمل في القطاع الإبداعي، وتحسين جودة الحياة، وجعل المدن والمناطق أكثر جاذبية للعيش والعمل.
ويواجه انشاء العلامات القوية تحديات أهمها:
الشفافية والمسؤولية، فمع قوة العلامة تأتي مسؤولية أكبر. المستهلكون اليوم أكثر وعياً ويطالبون بالشفافية في الممارسات (البيئية، الاجتماعية، الأخلاقية). أي خطأ يمكن أن يدمر الثقة بسرعة.
الضجيج والازدحام، فصعوبة اختراق الضجيج وبناء تميز حقيقي وسط عدد هائل من العلامات.
سرعة التغيير، وهو ما يعنى حاجة العلامات للتكيف السريع مع تغيرات السوق والتكنولوجيا وأذواق المستهلكين.
التوازن بين الربحية والأصالة، وهذا يرتبط بخطر تحول العلامات الثقافية إلى مجرد سلع استهلاكية تفقد روحها وجوهرها.
مصر أولى الدول ان تكون لها “علامة”.
فقد قامت الحضارة المصرية على الانضباط والتنظيم وجيش قوي والاحترام الأسري والاجتماعي (وتمتعت المرأة بحقوقها كالمشاركة في الميراث وإدارة الأعمال وتقلد المناصب حتى الملكية)، والايمان بالعلم والمعرفة واساسها اختراع الكتابة الهيروغليفية وتطوروها لتسجيل التاريخ وإدارة الدولة بنظام إداري التزم به جميع أفراد الدولة من ملكها إلى العامل، فنجد صورة العامل المصري القديم مطبوعة على العملة؛ ما يعد دليلا على احترام العامل.
وتطوير الطب والهندسة (بنوا الأهرامات بدرجة دقة رياضية وفلكية مذهلة)، واحترام الطبيعة خاصة نهر النيل الذي اعتبروه مصدر الحياة، فطوروا نظم ري متقدمة (كالشافطات) لزراعة القمح والكتان، واختراع التقويم الزراعي: قسم العام إلى ثلاثة فصول (فيضان، زراعة، حصاد) بناءً على دورة النيل.
واعتبرت مصر الفن تعبير عن المقدسات ولهذا صوروا بالنحت والرسم الآلهة والفراعنة بحجم أكبر كرمز للهيبة. وبالعمارة بنوا صروحًا ضخمة تعكس الإيمان بالخلود (مثل أبو الهول). كما كانت الحضارة المصرية القديمة تهتم بالأخلاق والعلم أكثر من المكانة الاجتماعية للفرد، بدليل تمثال الكاتب المصرى الموجود بالمتحف المصرى والذى لم يستدل حتى الآن على كنيته أو اسمه.
وهكذا سبق المصري القديم «الوصايا العشر» بنحو ألف عام، وشيد منظومة أخلاقية شاملة، لذا نحت على جدران المقابر رمز إلهة العدل «ماعت» ليتذكروا أن العمل باقٍ معهم.
ونحن في حاجة لإحياء القيم الحضارية المثلى التى كانت المنتشرة في الحضارة المصرية القديمة كمفهوم “ماعت” -إلهة الوئام والعدالة والحقيقة ممثلة كامرأة شابة-فمفهوم “ماعت” كلمة واحدة جامعة تفيد معني الحق، والحقيقة، والعدالة، والصدق، والاستقامة.
وتتضمن “ماعت” الدين والحكمة والأخلاق والشرائع، وتشجع الناس على العيش بسلام مع الآخرين والمساهمة في السعادة المجتمعية.
قانون ماعت
” قانون ماعت ” يقوم على تكامل كل مجالات الحياة ويحتوى على 42 مبدأ بتعليمات مادية تخص سلوك المرء فى المجتمع، أو توجيهات ذهنية وأخلاقية، ذات قيمة روحية رفيعة، وتمثل مباحث فى الأخلاق تعود بالنفع والفائدة على البشر فى مختلف الأزمنة.
من أبرز ما نقش المصرى القديم على الأحجار منها «لم أكذب ، لم أسرق، لم أملأ قلبى كرها، لم أسئ معاملة الناس، لم أسبب ألما لأحد، لم أكن سبباَ فى دموع إنسان، لم أكن سببا فى شقاء حيوان، لم أعذب نباتا: بأن نسيت أسقيه ماء، أطعمت الجائع، ورويت العطشان، وكسوت العريان، لم ألوث ماء النيل، ملأت قلبى بالحق والعدل.
والاخلاق ورقيها بدأت تتشكل منذ 5000 سنة فقط على ضفاف نهر النيل فى مصر، فالمصريين أول أناس، بل أول شعب يناقش المسائل الأخلاقية، مشاكل الخير والشر، ومسائل الصواب والخطأ، وحيث تعتبر الحضارة المصرية القديمة أعرق الحضارات الإنسانية وأطولها عمراً.
وقد استندت إلى مجموعة من القيم والمبادئ التي شكلت هويتها جمعت بين الروحانية والعملية، مما جعلها حضارة متوازنة استمرت لآلاف السنين بقيم خالدة أهمها السعي للعدالة والتقدير العميق للعلم والعمل وهو أساس أي علامة ناج





