قاطرة الكلمة

د.عبير بسيوني تكتب : الهجرة وحروب المنطقة: مفارقة تثبت العدالة

الدكتورة عبير بسيوني&وزير مفوض بوزارة الخارجية

توجد مصطلحات ثلاث (الهجرة، النزوح، واللجوء) تشترك في مفهوم مغادرة مكان الإقامة والاستقرار، إلا أنها تختلف بشكل بارز في أسباب المغادرة، التصنيف القانوني، والتأثيرات الناتجة عن هذه العملية. وتُعد هذه الظواهر الثلاثة من بين أبرز القضايا والتحديات التي تشهدها المنطقة.

الهجرة هي اوسع هذه المفاهيم واكثرها استخداما، ويكفي ان التأريخ الاسلامي يبدأ بهجرة الرسول الكريم من مكة الي المدينة، والتحضر الانساني قائم على الهجرة من الريف الي المدن.

وفي إحصائية أصدرتها المنظمة الدولية للهجرة، تم تقدير عدد المهاجرين العالميين في عام 2020 بنحو 272 مليون شخص على مستوى العالم، مسجلة زيادة قدرها 51 مليون شخص مقارنة بعام 2010.

وأشار التقرير نفسه إلى أن ثلث العدد الكلي للمهاجرين يتصل بالعمالة، وأن المهاجرين الدوليين يشكلون نسبة 3.5% من إجمالي سكان العالم في عام 2019.

وتُحكم الهجرة قوانين تحدد الأسس والقواعد التي تنظم تنقل المواطنين، سواء داخل حدود الدولة أو للأجانب الذين يدخلونها بهدف الإقامة.

وتنص المادة 13 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق كل فرد في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، والعودة إليه. والهجرة حق وممارسة فردية-ولا يمكن ان تكون جماعية ابدا كادعاءات اسرائيل او الولايات المتحدة امكانية “تهجير” الفلسطينيين الي دول اخرى، فلا يوجد ما يسمى “هجرة قانونية جماعية” وعمليات النزوح القسري بالقوة الذي تقوم به اسرائيل سعيا لما تسميه “التهجير” لا يمكن ان يتوسع الي عملية “طرد” قسري الي دولة اخرى، فلا يوجد هجرة طوعية جماعية الي دولة اخرى.

في حين ان النزوح هو حركة تنقل الفرد أو المجموعة من مكان إلى آخر داخل حدود الدولة تاركين ديارهم بشكل مفاجيء، ويكون ذلك دون إرادة النازح نفسه، بسبب ظروف خارجية تهدد حياته، مثل المجاعة، أو الحروب، أو الجفاف والتصحر، أو أي كوارث أخرى والشرط للتسمية “نازح” ألا يتجاوز حدود الدول المعترف بها دوليا.

وفي المقابل هناك اللجوء الذي يمكن ان يكون فرديا او جماعيا. ففي السياق القانوني، يُعرَّف القانون الدولي اللاجئين بأنهم الأفراد الذين يضطرون لترك منازلهم خوفًا من التعرض للاضطهاد، سواء من أفراد أو جماعات، وذلك بسبب أسباب سياسية أو دينية أو عسكرية أو أسباب أخرى.

تختلف تعاريف اللاجئين تبعًا للزمان والمكان. ووسعت معاهدة اللاجئين عام 1951 تعريف اللاجئ ليشمل “من خرج بسبب مخاوف حقيقية من اضطهاد بسبب عرقه ودينه وجنسيته وانتمائه إلى طائفة اجتماعية معينة أو ذات رأي سياسي، وتواجد خارج البلد الذي يحمل جنسيته، ويكون غير قادر أو بسبب هذه المخاوف غير راغب في الاعتماد على حماية دولته أو العودة لبلده بسبب المخاوف السابقة”. وهذا هو التعريف الذي تعتمده المنظمات الدولية.

وتحديد المفاهيم السابق يُجزم بعدم امكانية حدوث “تهجير” جماعي للفلسطينيين، فمع هذا الوجع الانساني العميق امام حالة الابادة الجماعية التى يتعرض لها الفلسطينيين مع التجويع بمنع وصول المساعدات وتعطيل عمل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين “الاونروا” كلية الأمر الذي وصل لحالة المجاعة في قطاع غزة والتلويح المستمر بإجراء-غير مقبول قانونا- بالطرد القسري من بلادهم بادعاءات التهجير القسري او الطوعي-وكلاهما كما اوضحنا مصطلحات غير موجودة بالقانون.

وقد أنشأت الأمم المتحدة منذ بداية الصراع هيئة خاصة لحالة الفلسطينيين وسجلت اللاجئين لدى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (أونروا) وبالتالي لا يُعاملون بنفس طريقة اللاجئين الآخرين الذين تشملهم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) فهذا الفصل القانوني يجعل الحالة الفلسطينية مميزة ويوجب الحماية الدولية لتقوم الأونروا بدورها في توفر الحماية الأساسية لهم.

وهو الأمر الذي بات صعبا او مستحيلا خاصة مع حظر الإسرائيل لأنشطة الأونروا منذ نوفمبر2024 وحرمان الفلسطينيين من الحماية لا يُعد فقط تجاهلًا لمعاناتهم، بل هو خذلانٌ أخلاقيٌ عالمي. فالقانون الدولي ينص على حماية من يُحرمون من الحياة الكريمة، ولا يجوز أن يُستثنى شعبٌ بأكمله بسبب تعقيدات سياسية.

وكان لحرب اسرائيل في غزة تأثير مباشر على الهجرة، خاصة الهجرة غير الشريعة، وحدثت تغييرات بمسارات العبور عبر المتوسط خاصة مع تدهور الوضع الأمني في لبنان مما تسبّب في زيادة نزوح داخل المنطقة وانزياح بعض التدفقات صوب البحر المتوسط بحثاً عن ملاذات خارجية أو نقاط عبور نحو أوروبا.

وحيث يصبح ساحل غزة ولبنان مصادر عبور أو نقاط تجمّع مؤقتة للمهاجرين والنازحين، ما يرفع احتمالات رحلات بحرية محلية قصيرة إلى جزر أو سواحل جنوب أوروبا أو حركات عبور عبر دول الجوار وصولاً إلى نقاط انطلاق بحرية شمال أفريقيا. 

ومع ذلك لا توجد بيانات محددة حول التغيرات في أعداد المهاجرين من فلسطين أو لبنان أو المناطق المتأثرة الأخرى بالصراع الذين يحاولون عبور المتوسط. في حين تركز المعلومات المتاحة بشكل كبير على الظاهرة الجديدة المتمثلة في تزايد الهجرة من إسرائيل، بدلاً من أنماط الهجرة التقليدية للمجموعات الأخرى. 

وتشير المعلومات المتاحة إلى استمرار الهجرة من إسرائيل، فمن المتوقع أن يستمر اتجاه هجرة الإسرائيليين المتعلمين إذا استمر مناخ انعدام الأمن والاستقطاب السياسي الحالي، مما قد يضعف النسيج الاقتصادي والاجتماعي لإسرائيل. 

وبالتالي فإن تأثير الحرب على الهجرة تمثل في شكل زيادة الهجرة من إسرائيل نفسها. فالمفارقة المؤلمة والمثيرة للتأمل، فيمن تمسك بأرضه رغم كل شيء، وهذا يعكس عمق العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم، وفيمن هاجر بما يكشف هشاشة المشروع الاستيطاني حين يُختبر في الميدان، فبينما كانت أهداف الحرب المعلنة أو غير المعلنة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من غزة، جاءت النتائج لتكشف عن تهجير واسع للإسرائيليين أنفسهم من مستوطنات محاذية للقطاع، خاصة في الجنوب، بسبب تصاعد العمليات العسكرية وعدم توفر الأمن. فالواقع الميداني يعكس ذلك:

آلاف الإسرائيليين غادروا مناطق مثل سديروت وعسقلان ومستوطنات غلاف غزة، إما بشكل مؤقت أو دائم، نتيجة القصف المستمر والخوف من التسلل أو الهجمات.

في المقابل، ورغم الدمار الهائل، بقي كثير من الفلسطينيين في غزة، متمسكين بأرضهم، حتى في ظل ظروف إنسانية قاسية.

ومن أهم البيانات المتاحة نجد أنه غادر حوالي 79,000 إلى 82,700 إسرائيليًا في عام 2024، مما أدى إلى رصيد هجرة سلبي للمرة الأولى منذ عقود، وبما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة. وأهم الملامح الديموجرافية لهؤلاء المهاجرين انه بشكل أساسي ذوو التعليم العالي، والمهنيون المهرة، والأسر العلمانية التي لديها أطفال، مما يؤدي إلى “هروب العقول”.

أما أهم الوجهات الأساسية فهي دول مثل اليونان (مثل كريت)، وقبرص، والولايات المتحدة، ومختلف الدول الأوروبية. والسبب الأساسي للهجرة هو المخاوف الأمنية بسبب الحرب، عدم الاستقرار السياسي، والشعور بأن البلاد أصبحت أقل ليبرالية.

وهكذا فمن الواضح أن حرب إسرائيل على غزة أدت إلى نتائج عكسية على المستوى الديموجرافي، ولموجة هجرة غير مسبوقة من إسرائيل نفسها، خاصة وأن نصف الإسرائيليين المغادرين هم من غير اليهود المعترف بهم رسمياً، وبذلك تعد ظاهرة غير مسبوقة و”أخطر موجة هجرة” تشهدها إسرائيل منذ تأسيسها، والمرة الرابعة فقط في مئة عام التي يسجل فيها “رصيد الهجراة سلبيًا”، بما يثبت-وبالاحصائيات- ان ظل العادلة قائم في الأرض حتى يرثها الله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى