هويدا عزت تكتب : وراء جدران المكاتب: العنف المعنوي ضد المرأة العامل
الدكتورة هويدا عزت&كاتبة وباحثة في العلوم الإدارية وفلسفة الإدارة

“هذا العمل للرجال فقط”، “أنتِ لا تستطيعين فعل أي شيء بشكل صحيح”، “أُفضل العمل مع الرجال”، إلى جانب الإهمال المُتعمد وتجاهل آراء المرأة، وعدم الاستماع إليها، تشكل سهامًا مسمومة تخترق نفوس الكثير من النساء في بيئات عملهن، هذه السلوكيات التي تتراوح بين التحقير الصريح والتمييز الخفي، تُلحق أضرارًا بالغة بثقة المرأة بنفسها وقدراتها، وتزرع بذور الشك في مكانها في بيئة العمل، وخلف جدران المكاتب، حيث من المفترض أن تتنافس الكفاءات وتتكاتف الجهود، تتسلل آفة العنف النفسي ضد المرأة، مخلفةً جروحًا عميقة تهدد بتدمير بيئة العمل بأكملها.
إن العنف ضد المرأة، كما عرفته الأمم المتحدة، يتجاوز الضرب والجروح الظاهرة، ليصل إلى أعماق النفس. فالعنف المعنوي، بأشكاله المتعددة من إهانات وتحكم وتهميش، يهدف إلى تدمير ثقة المرأة بنفسها، وتحويلها إلى أداة بلا إرادة.
في هذا المقال، نستكشف ظاهرة العنف المعنوي ضد المرأة في بيئة العمل، نتناول أسبابها، وآثارها المدمرة، ونسلط الضوء على أهمية توفير بيئة عمل آمنة ومحترمة للجميع.
جاء في إعلان الأمم المتحدة لعام 1993، يشمل العنف ضد المرأة أي فعل عنيف يستهدف المرأة بسبب جنسها، سواء كان بدنيًا أو نفسيًا، بما في ذلك التهديد بالعنف، أو الإكراه، أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء كان هذا العنف في الأماكن العامة أو الخاصة، ولا يقتصر العنف ضد المرأة على الأفعال الجسدية الظاهرة، بل يتعداه إلى أشكال أكثر خفاءً وتأثيرًا، مثل العنف النفسي، ويشمل أي سلوك يهدف إلى إهانة المرأة، تخويفها، تحقيرها، أو عزلها، سواء كان هذا السلوك لفظيًا، عاطفيًا، أو جنسيًا؛ بهدف ضعف ثقة المرأة بنفسها، السيطرة عليها، وجعلها تشعر بعدم القيمة.
وتوصلت الإحصائيات إلى أن المرأة تتعرض للعنف المعنوي بنسبة كبيرة في جميع أنحاء العالم، بغض النظر عن الثقافة أو المستوى الاجتماعي أو التعليمي، مما يؤثر سلبًا على صحتها النفسية والعاطفية ويجعلها تعاني من الاكتئاب، والقلق والانعزال الاجتماعي، وغالبًا ما يكون العنف المعنوي مصحوبًا بأشكال أخرى من العنف، إلا أن العديد من الضحايا لا يبلغن عن هذه الحالات بسبب الخوف من الانتقام أو وصمة العار.
وقد اشتدت هذه الآفة في أماكن مختلفة، ومنها بيئة العمل، فالعنف المعنوي ضد المرأة ليس مقتصرًا على الأماكن الخاصة مثل المنزل، بل يتعداه إلى مختلف الأوساط، ومن بينها بيئة العمل، هذه الظاهرة الخطيرة لها آثار سلبية عميقة على نفسية المرأة وحياتها المهنية والشخصية.
ويتخذ العنف المعنوي في بيئة العمل أشكالاً متنوعة ومتعددة، منها: الانتقادات المُستمرة التي تستهدف كرامة المرأة وشخصيتها، عزل المرأة، وتهميشها، وإحراجها أمام زملائها في العمل، كما قد يكون ينظر إلى تكليف المرأة بمهام إضافية لا تتناسب مع وظيفتها، وتقييد حريتها في التعبير عن رأيها، بالإضافة إلى التمييز في المعاملة، من خلال حصول المرأة على فرص أقل من الرجل في الترقية والتدريب، وتقليل قيمة عملها وإنجازاتها، كلها تمثل أشكال العنف المعنوي ضد المرأة.
وتتعدد الأسباب التي تؤدي إلى مُمارسة العنف المعنوي ضد المرأة في بيئة العمل، منها: التصورات النمطية عن دور المرأة في المجتمع إلى تهميشها وإقلال قيمتها في مكان العمل، بالإضافة إلى غياب بيئة عمل آمنة، وعدم توفير آليات فعالة لتقديم الشكاوى.
وتؤثر العواقب السلبية المترتبة عن العنف ضد المرأة والفتاة على صحة النساء النفسية والجنسية والإنجابية في جميع مراحل حياتهن، ويقول خبراء علم النفس إن النساء اللاتي يتعرضن للعنف قد يشعرن بمشاعر سلبية مثل الشعور بالذنب، والخوف، والعجز، والوحدة، وانعدام الأمن، والتوتر، والقلق، وانخفاض الثقة بالنفس، بالإضافة إلى مشاكل صحية، مثل الصداع، آلام في المعدة، وأمراض مزمنة، الانسحاب من الحياة الاجتماعية، عزلة نفسية وعزوف عن المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، وعلى مستوى العمل تدهور الأداء الوظيفي، وصعوبة في التركيز، وزيادة الأخطاء، مما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا تستمر المرأة في تحمل العنف المعنوي في العمل؟
تستمر العديد من الموظفات في الصمت إزاء العنف المعنوي الذي يتعرضن له في بيئة العمل، خوفًا من فقدان وظائفهن التي يعتمدن عليها في تأمين معيشتهن، تؤمن هذه النساء بأن التعبير عن معاناتهن سيؤدي إلى عواقب وخيمة، مما يدفعهن إلى تحمل الإهانات والتحقير بصمت، هذا الصمت المتراكم يعزز من ثقافة السكوت والقبول بالعنف، ويحول دون تحقيق بيئة عمل آمنة.
وللتغلب على هذه المشكلة، يجب اتخاذ مجموعة من الإجراءات، منها: توعية المجتمع، من خلال نشر الوعي بأشكال العنف المعنوي وآثاره السلبية، وتلعب الأسرة دورًا حيويًا في بناء مجتمع خالٍ من العنف، دورًا كبير حيث تؤثر التنشئة الاجتماعية على تصورات النساء عن أنفسهن وقدرتهن على المطالبة بحقوقهن، فمن الضروري توعية الأبناء منذ الصغر بمخاطر العنف بكافة أشكاله، سواء كان عنفًا جنسيًا أو نفسيًا أو لفظيًا.
كما أن للمؤسسات التعليمية أن تلعب دورًا هامًا في توعية الشباب حول مسألة العنف ضد المرأة، واحترام حقوق الإنسان وتقدير قيمة كل فرد، يجب أن نؤكد على أهمية المساواة بين الجنسين، وأن نرفض أي شكل من أشكال التمييز أو الإساءة، من خلال التعاون بين الأسرة والمدرسة والمجتمع، يمكننا بناء جيل جديد يرفض العنف ويعيش في سلام وأمان.
هذا فضلًا عن، توفير بيئة عمل آمنة، من خلال سياسات واضحة وإجراءات فعالة لمكافحة العنف، من خلال إنشاء آليات للشكوى والتحقيق في حالات العنف، وتوفير الدعم النفسي للمتضررات، التأكيد على دور المرأة في المجتمع وتمكينها اقتصاديًا واجتماعيًا.
علاوة على ذلك، لابد من تشجيع النساء العاملات الذين تعرضوا لأي نوع من العنف من الإبلاغ حتى لا يترسخ الاعتقاد بأن هذا السلوك مقبول، حيث يؤدي غياب سياسات واضحة وإجراءات فعالة لمكافحة العنف في العديد من المؤسسات إلى تشجع على استمرار هذه المُمارسات، وانتشاره في بيئات العمل الأخرى.
وتؤكد الأمم المتحدة أن العنف ضد المرأة يعد “أحد أكثر انتهاكات حقوق الإنسان انتشارًا في العالم، وتعمل حكومات ومنظمات حول العالم من أجل مكافحة العنف ضد النساء وذلك عبر مجموعة مختلفة من البرامج منها قرار أممي ينص على اتخاذ يوم 25 نوفمبر من كل عام كيوم عالمي للقضاء على العنف ضد النساء.
كما وضعت الأمم المتحدة سُبل للحل تكمن في الاستجابات القوية، ومحاسبة الجناة، وتسريع العمل، من خلال إستراتيجيات وطنية جيدة الموارد، وزيادة التمويل لحركات حقوق المرأة.
وفي الختام وقبل مئات السنوات من الآن قبل انشغال العالم بقضية المرأة، جاء الدين الإسلامي ليؤكد على دور المرأة الهام في المجتمع وقدرتها على العمل والقيادة واستخدامها لفنون الإدارة المختلفة، وتعتبر قصة عمل النبي صلى الله عليه وسلم عند السيدة خديجة، وقصة بلقيس الملكة الحكيمة من أبرز القصص التي تؤكد دور المرأة في التاريخ، حيث أثبتتا قدرة المرأة على القيادة والحكمة واتخاذ القرارات المصيرية؛ فالسيدة خديجة كانت امرأة أعمال ناجحة قدمت الدعم للنبي صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته، بينما برهنت الملكة بلقيس على حكمتها وقدرتها على التفاوض بنجاح.
إن قصتي السيدة خديجة والملكة بلقيس ليستا مجرد حكايات تاريخية، بل هي مصدر إلهام للأجيال القادمة، فقبل قرون عديدة، وفي وقتٍ كانت فيه المرأة تواجه تحديات كبيرة، أثبتت هاتان القصتان أن المرأة قادرة على تجاوز هذه التحديات وتحقيق نجاحات باهرة، إن هذا الإرث العظيم يدعونا جميعًا إلى الاعتراف بدور المرأة في المجتمع وتمكينها من تحقيق كامل إمكاناتها.