قاطرة الثقافةقاطرة الكلمة

منال الدكروري تكتب : رواية سيوليفيجيا لـ”بريهان أحمد” هي سيرة ذاتية لروح أنهكها الألم كتبت لتتعافى

منال الدكروري تكتب : رواية سيوليفيجيا لـ"بريهان أحمد" هي سيرة ذاتية لروح أنهكها الألم كتبت لتتعافى

تُعَدُّ رواية سوليفيجيا للروائية والكاتبة بريهان أحمد عمل أدبي أول، لكنه لا يُشبه البدايات. هو السيرة الذاتية لروح أنهكها الألم، فكتبت لتتعافى، لا لتُدهش القارئ فقط. الرواية الأولى للكاتبة بريهان أحمد، صاحبة كتابَي “بقايا جيل التسعينات” و“عاجل: اقرأ الحادثة”، جاءت كثيفة، ثرية، وممتدة على أكثر من 600 صفحة، وهو أمر قد يُستغرب لولا أن الكاتبة من مواليد برج الجوزاء، المعروف عنه الغزارة في الحكي والتفصيل، والقدرة على السرد بانسياب لا يتوقف.

لكن ليس الأمر متعلقًا فقط بالبرج الفلكي. الكاتبة، كما يظهر من نَفَسها الطويل، تملك ناصية اللغة، وتتقن أدوات الحكي، مما يجعل الإسهاب مبررًا من جهة، وضروريًا من جهة أخرى، خاصة وأن بطلتها بيسان تعيش داخل رأسها أكثر مما تعيش في العالم. فتاة مأخوذة بالتفاصيل، مسكونة بالذكريات، أسيرة للماضي، تجد في الكتابة سبيلًا وحيدًا للنجاة من نوبات الهلع والصداع النصفي الذي يضربها كل مساء.

الكتابة، في هذا العمل، لم تكن ترفًا، بل طوق نجاة. والورق كان بمثابة طبيب نفسي صامت. ألمُ الكاتبة واضح في كل سطر، وحِرصها على تسجيل أدق المشاعر يجعل الرواية تجربة وجودية أكثر من كونها سردًا تقليديًا.

لم يكن السرد الروائي وحده ما تميزت به الكاتبة، بل بدا واضحًا أيضًا الطابع الصحفي الذي تشربته من سنوات كتابة المقالات، وهو ما انعكس أحيانًا على لغة الرواية، التي خرجت في بعض المواضع من عباءة القصة إلى أجواء المقال التأملي، لكنها لم تفقد صدقها أو تأثيرها.

ورغم امتلاء النص بالأحداث والمعلومات، لم أشعر بالثقل، بل وجدت نفسي أدوّن الاقتباسات وأبحث في محرك البحث عن كل إشارة تاريخية وردت؛ من زلزال 1992، إلى قصة العبّارة، إلى ثورة 25 يناير، واستشهاد الطفل محمد الدرة، وغير ذلك من الأحداث التي ضمّنتها الكاتبة برشاقة على ألسنة الشخصيات.

الكاتبة من مواليد 1992، نشأت في بيت يعشق الأخبار والحكايات، وكانت طفولتها، كما وصفتها، غير عادية. كان البيت بمثابة مكتبة ومسرح وخطبة نشرة أخبار يومية، وهذا يظهر جليًا في الرواية التي تجمع بين الطابع الأدبي والسرد التاريخي والبعد النفسي.

بيسان، بطلة الرواية، فتاة حساسة، هشّة، تحمل فوق ظهرها خيبات متراكمة. أول خذلان جاء من والدٍ حاضر بالجسد، غائب بالعاطفة، ثم جاءت الصدمة الكبرى من ضرار، حبها الأول في الجامعة، ثم من كمال، الرجل الثاني الذي أعاد تمثيل الخيانة، لتجد بيسان نفسها تائهة، مضطربة، تبحث عن الأمان والاحتواء.

كل ذلك دفعها للكتابة… كعلاج نفسي، ووسيلة لفهم ذاتها ولملمة شتاتها. ومن هنا كان عنوان الرواية سوليفيجيا، وهو اسم ذو رمزية عميقة، يُشير إلى تلك العزلة النفسية التي تحرم الإنسان من الحاضر، وتربطه بقيود الذكريات.

أسماء الشخصيات بدت موفقة:


• ضرار: رجل من برج العقرب، متقن لدور الضحية، بارع في الإيقاع بالفتيات، غامض، ساحر، ومؤذٍ.
• كمال: مثال للوغد الحديث الذي يتخفى خلف قناع المثقف.
• معتز: الصديق الصادق، الإنسان النقي الذي أحب بيسان بصمت، ولم يطلب منها شيئًا سوى أن تكون بخير.

تساءلت كثيرًا: لماذا لم تنجذب بيسان إلى معتز؟ لماذا اختارت ضرار رغم كل إشارات الخطر؟ الإجابة النفسية التي ألمحت إليها الرواية، وتطرق لها علماء النفس، أن الفتاة التي تُخذل من والدها غالبًا ما تنجذب لمن يُعيد تمثيل الجرح ذاته، أملاً في شفائه.

أحببتُ أن أرى بيسان ومعتز معًا في مشاهد أكثر. تمنيت لو استعرضت الكاتبة تفاصيل علاقتهما، كيف يواجهان الغضب والفقد، كيف يعالجان آلامهما. لذلك أطالب بجزء ثانٍ، تكون فيه بيسان أكثر تصالحًا مع نفسها، وأكثر حضورًا مع معتز، ويتركز فيه السرد على حياتهما المشتركة.

أحببت “سوليفيجيا” لأنها تشبه الفتيات الطيبات اللاتي لم يمنحهنّ القدر فرصة براءة كاملة. أحببت بيسان، الفتاة التي لم تكن طفولتها طفولة، ولم يكن حبها الأول حبًا، بل خديعة مؤلمة. وأشفقت عليها، لأنها تشبه كثيرات مررن من هنا، وسكتن.

في الرواية اقتباسات كثيرة تصلح أن تُخلد، منها:


1. “الحب الأول هو الشعور الخالي من العقل تمامًا، كيف أحببته؟!”
2. “كل ساقٍ سيسقى بما سقى، يومًا ما ستلهث على الوفاء ولن تجده.”
3. “من جمال الحياة أن الله يبعث في طريقك من يوقظك، حين تظن أنك مستيقظ.”
4. “الثقة الزائدة مراوغة مع الذات… محاولة لتخدير العقل كي لا يفكر.”
5. “ما أجملك يا ضرار، كنتَ رجل المهام الصعبة، إلا تلك التي تخصني.”
6. “أعري روحي على الورق، لأرى سذاجة قلبي وخيباتي.”

كما احتوت الرواية على أفكار فلسفية عميقة، مثل الإشارة إلى وادي عبقر، وشياطين الشعر، وقضايا الشرف في الجاهلية (مثل قصة هند بنت عتبة)، واستخدمت الكاتبة الإسقاطات الرمزية ببراعة، كإشارة الدبلة الفضية المطلية بماء الذهب كرمز لعلاقة مزيفة.

أخيرًا… حين تكتب بريهان أحمد، فأنت لا تقرأ فقط، بل تُصغي لهمس روحٍ تشبهك… تفتح معك أبواب الذكريات، وتأخذك في آلة زمن لا تعيدك كما كنت.

سوليفيجيا… حكاية فتاة وثلاثة رجال.


أولهم: والدها، الذي حرمها من حنانه رغم وجوده حيًا بين الناس.
والثاني: ضرار، حبها الأول، حب الجامعة، الذي مثل أول صدمة حقيقية.
والثالث: كمال، الوغد الثاني في الحكاية، والخذلان المتجدد.

ثلاث خيبات متتالية جعلت من بيسان فتاة مثقلة بالألم، منهكة بالخذلان، لم تجد مناصًا من كل هذا الألم سوى أن تحوّله إلى دافع، أن تنهض، وتكتب، وتصبح كاتبة ذات اسم.
كان اختيار أسماء الشخصيات موفقًا؛ لا سيما اسم ضرار، الذي أرهقتها قصته، وترك بداخلها متلازمة الخوف من البدء من جديد، من الاقتراب، من الثقة.
وقد عبّرت عن ألمها بقولها:
“كل ساقٍ سيسقى بما سقى، ويوماً ما ستلهث على الوفاء ولن تجده.”

أما بيسان، فاسمها وحده يحمل في طياته معنى البراءة والرقة، بين العربية والتركية، ويرتبط بمدينة بيسان الفلسطينية، ما أضفى على الشخصية رمزًا عميقًا للأنوثة المجروحة والهوية المسلوبة.

كانت بيسان فتاة هشة، جرحتها طفولة قاسية، ووالد مهمل، لم يقم بدوره كأب.
ومن هنا، بدأت بحثها اللاواعي عن صورة الأب في الرجال الذين عرفتهم في حياتها الجامعية.
ووسط هؤلاء، كان معتز، صديقها، المثال الراقي لما يُعرف بـ”ابن الناس”: الشاب المهذب، الشهم، المتواضع، الصادق.

لكن السؤال الجوهري ظلّ قائمًا:
لماذا انجذبت بيسان إلى ضرار، ولم تُعر اهتمامًا لمعتز رغم إخلاصه؟
تلك نقطة نفسية تحدث عنها خبراء علم النفس؛ إذ تشير الدراسات إلى أن الفتاة إذا جُرحت عاطفيًا من والدها، فإنها -بلا وعي– تميل إلى الانجذاب نحو رجل يُعيد تمثيل جرحها ذاته، على أمل أن تداويه هذه المرة.

ربما لم تقصد الكاتبة هذا التحليل النفسي، وربما قصدته. وربما يكون ذلك انعكاسًا لقصة قديمة، أو مشهد مألوف بين والدتها ووالدها، ذلك الأب الذي تمتع بذكاء اجتماعي متعدد الوجوه، ولكنه في النهاية انفصل عن زوجته إثر خيانة.

تقول بيسان:


“الحب العظيم نتغافل عنه دوماً، كأننا نبحث عن الشقاء لأنفسنا.”

أما ضرار، فكان مثالًا للفتى النرجسي، المخادع، الذي أتقن دور الرجولة المزيفة لمدة عامين.
كان غامضًا، ساحرًا، صيادًا بارعًا، ومن برج العقرب الذي تشتهر صفاته بالخداع والتلاعب العاطفي.
قالت عنه بيسان:
“كنت أشعر معه بأني طفلة، تتعلق بيديه، لكنه لم يكن يحملني، بل كان يطلقني للسقوط كل مرة.”

وأضافت:


“الثقة الزائدة… مراوغة الإنسان مع ذاته، محاولة لتخدير العقل ومنعه من التفكير.”

بيسان عانت من غياب الأب ومن ألم الكتابة. كانت حساسة، رقيقة، موهوبة.
حبها الأول كان أول دقات قلب، أول رفرفة فراشة، بحث عن أمان في خارج حدود الأسرة.
لكنها، كباقي الفتيات، وقعت في فخ التعلق بمن أبدى اهتمامًا، حتى لو كان كاذبًا.
ضرار كان نرجسيًا بامتياز، يعيش دور الضحية، ويجذب الفتيات الساذجات ليمارس عليهن نواقصه.

لم تكن مشكلتها فقط في الرجال، بل حتى صديقتها مارست نرجسيتها عليها، ففقدت الثقة في النساء أيضًا.
كانت بيسان تمارس جلد الذات على الورق، تنعت نفسها بالسذاجة والغباء، بينما كانت في الحقيقة ضحية لواقع عاطفي مؤلم، وأبٍ غائبٍ حين كانت في أمس الحاجة إليه.

السرد في “سوليفيجيا” كان أنيقًا، شاعريًا، خصوصًا في مشاهد الحزن والفرح، وهو ما يعكس صدق الكاتبة، وعمق معاناتها، وامتزاج روحها بروح بطلتها.
لقد شعرت، وأنا أقرأ، أن الكاتبة وبيسان هما شخصية واحدة… أو على الأقل، تنفستا من الوجع ذاته.

احتوت الرواية على الكثير من الأفكار والمراجع الثقافية:
• وادي عبقر، وشياطين الشعر
• قضايا الشرف قبل الإسلام، وخاصة قصة هند بنت عتبة
• كتاب “يوميات نائب في الأرياف”
• إشارات إلى أدب أحلام مستغانمي، إحسان عبد القدوس، وكتاب “أرواح وأشباح”

هذا التنوع يعكس اتساع أفق الكاتبة، وغزارة معلوماتها، وذكاءها في دسّ المعلومة داخل سياق السرد دون أن يشعر القارئ بثقلها.

من أعمق الأسئلة التي طرحتها الكاتبة، وجعلتني أتوقف كثيرًا:
• لماذا نشتاق للأماكن ونبكيها بعد أن نغادرها؟
• لماذا لا نوثّق لحظات الحب والسعادة ونحن نعيشها؟
• لماذا يُحاسب الأبناء دائمًا على العقوق، بينما لا يُسأل الآباء عن تقصيرهم؟
• كيف يُنتظر البر من أبٍ لامبالي، لم يكن يومًا حنونًا أو مسؤولًا؟

الرواية كلها آلة زمن.

ستركبها مع بيسان، وتراها تقلب في مكنونات قلبها، وتصحبك معها إلى ماضٍ يشبه ماضيك.
وفي لحظة ما، ستتداخل مشاعرك مع مشاعرها حتى لا تعود قادرًا على التمييز بين ما تحياه هي، وما يوجعك أنت.

أحببت “سوليفيجيا”.

أحببت بيسان، الطفلة البريئة التي لم تكن طفولتها بريئة، والفتاة التي تُصارع، كل ليلة، ذكريات لا تشبهها ولكنها مثقلة بها.
أشفقت عليها… على لسانها، وعلى ما خطّته يدها.

أتمنى أن أراها في جزءٍ ثانٍ، مع معتز… ذلك الإنسان الصادق، الذي لم يرد منها شيئًا، سوى أن تكون بخير.
وأتمنى أن تقرأ كل فتاة جامعية هذه الرواية، قبل أن تسلّم قلبها لأول اهتمام.
سوليفيجيا ليست فقط قصة، بل عبرة… كتبتها بريهان أحمد بدمع القلب، وسكب الروح.

ضرار كان نرجسيًا بامتياز، يعيش دور الضحية، ويجذب الفتيات الساذجات ليمارس عليهن نواقصه.

لم تكن مشكلتها فقط في الرجال، بل حتى صديقتها مارست نرجسيتها عليها، ففقدت الثقة في النساء أيضًا.
كانت بيسان تمارس جلد الذات على الورق، تنعت نفسها بالسذاجة والغباء، بينما كانت في الحقيقة ضحية لواقع عاطفي مؤلم، وأبٍ غائبٍ حين كانت في أمس الحاجة إليه.

السرد في “سوليفيجيا” كان أنيقًا، شاعريًا، خصوصًا في مشاهد الحزن والفرح، وهو ما يعكس صدق الكاتبة، وعمق معاناتها، وامتزاج روحها بروح بطلتها.
لقد شعرت، وأنا أقرأ، أن الكاتبة وبيسان هما شخصية واحدة… أو على الأقل، تنفستا من الوجع ذاته.

احتوت الرواية على الكثير من الأفكار والمراجع الثقافية:


• وادي عبقر، وشياطين الشعر
• قضايا الشرف قبل الإسلام، وخاصة قصة هند بنت عتبة
• كتاب “يوميات نائب في الأرياف”
• إشارات إلى أدب أحلام مستغانمي، إحسان عبد القدوس، وكتاب “أرواح وأشباح”

هذا التنوع يعكس اتساع أفق الكاتبة، وغزارة معلوماتها، وذكاءها في دسّ المعلومة داخل سياق السرد دون أن يشعر القارئ بثقلها.

من أعمق الأسئلة التي طرحتها الكاتبة، وجعلتني أتوقف كثيرًا:


• لماذا نشتاق للأماكن ونبكيها بعد أن نغادرها؟
• لماذا لا نوثّق لحظات الحب والسعادة ونحن نعيشها؟
• لماذا يُحاسب الأبناء دائمًا على العقوق، بينما لا يُسأل الآباء عن تقصيرهم؟
• كيف يُنتظر البر من أبٍ لامبالي، لم يكن يومًا حنونًا أو مسؤولًا؟

الرواية كلها آلة زمن.
ستركبها مع بيسان، وتراها تقلب في مكنونات قلبها، وتصحبك معها إلى ماضٍ يشبه ماضيك.
وفي لحظة ما، ستتداخل مشاعرك مع مشاعرها حتى لا تعود قادرًا على التمييز بين ما تحياه هي، وما يوجعك أنت.

أحببت “سوليفيجيا”.
أحببت بيسان، الطفلة البريئة التي لم تكن طفولتها بريئة، والفتاة التي تُصارع، كل ليلة، ذكريات لا تشبهها ولكنها مثقلة بها.
أشفقت عليها… على لسانها، وعلى ما خطّته يدها.

أتمنى أن أراها في جزءٍ ثانٍ، مع معتز… ذلك الإنسان الصادق، الذي لم يرد منها شيئًا، سوى أن تكون بخير.
وأتمنى أن تقرأ كل فتاة جامعية هذه الرواية، قبل أن تسلّم قلبها لأول اهتمام.
سوليفيجيا ليست فقط قصة، بل عبرة… كتبتها بريهان أحمد بدمع القلب، وسكب الروح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى