كيرلس عبد الملاك يكتب :الدول لا تُبنى على سرقة الأفكار بل على احترام الأكفاء
كاتب صحافي وباحث في العلوم السياسية
يُحكى أن دولة تولّى فيها السلطة مجموعة من الأشخاص غير المؤهلين لإدارة الدول، فانتهجت نهجاً أمنياً متطرفاً بعيدًا كل البعد عن عدالة القانون والدستور، يقوم على إقصاء كافة المعارضين وتخوينهم واتهامهم باتهامات جزافية. ولأن هذه المجموعة تفتقر لأدوات إدارة الدول، اختارت بدلاً من الاستعانة بالأكفاء والقديرين، أن تستعين بأشخاص بعضهم فاسد أخلاقيًا، وبعضهم فاسد ماليًا، وبعضهم محدود الذكاء، باحث عن الشهرة أو النفوذ أو المال، لكي تتمكن من السيطرة على الجميع بدعوى الحفاظ على الأمن والاستقرار. غير أن هذا الأمن وذاك الاستقرار لا يتحققان فعليًا إلا في ظل تفعيل دستور وقانون عادلين يحترمان المؤسسية والكفاءة.
لقد استخدمت هذه المجموعة، التي تمكنت من السلطة في غفلة من الزمن، أدوات التجسس للتنصت على كافة المؤثرين الأكفاء الذين تم إقصائهم عمدًا عن المناصب والمواقع التي يستحقونها، لكي يتم تتبع توجهاتهم ومراقبة خطواتهم وسرقة أفكارهم البناءة التي لا تمتلك مثلها. لقد سرقوا العديد من هذه الأفكار وطبّقوها ونسبوها لأنفسهم ولحاشيتهم بدعوى بناء الدولة، معتقدين أن هذا السلوك الإجرامي سيؤدي بهم إلى النجاح. ولكن بعد عدة سنوات، أدرك الجميع أن ما سرقوه وطبّقوه لم يبنِ الدولة كما كانوا يظنون، بل قادها إلى مستنقع الفشل. تُرى، لماذا حدث ذلك؟
ثورة الاتصالات والتكنولوجيا
في عالم اليوم، يسهل على أي شخص الوصول إلى أفكار ليست صادرة من بحثه أو فكره الخاص، سواء من كتب أو أبحاث علمية أو حتى نقاشات شفوية، نظراً لثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي شهدها العالم في العقود الأخيرة. لكن من الصعب أن يتمكن الشخص نفسه من فهم عمق الأفكار وطرق تناولها الصحيحة وتطبيقها بشكل مثمر ومناسب. هذا ما يميز مالك الأفكار الحقيقي صاحب الجدارة، والباحثين الاستثنائيين الجديرين بالاستماع والقيادة عن غيرهم. فالأمر لا يتعلق بكمّ الكلام أو حبكته، ولا بالصورة الإعلامية البراقة، بل بحقائق الأفكار وتفاصيلها الدقيقة، والفهم السليم الذي يضع كل فكرة وكل ممارسة في موقعها الزمني والتطبيقي المناسب، وهذا ما يميز الشخص الكفء عن غيره.
من الآثار الكارثية لسرقة الأفكار تشويهها وإساءة تطبيقها، مما يؤدي إلى فشل التطبيق وإشاعة الجهل، وظهور ما يُعرف بـ “غرور الجهلاء” الذي يجعل البعض يعتقد أنه توصل إلى ما لم يتوصل إليه أحد من قبل، فيغلق عقله عن الفهم والوعي. كما يؤدي هذا السلوك إلى تصعيد غير الأكفاء إلى مناصب لا يستحقونها، وصناعة رموز إعلامية ومجتمعية خاوية من المعرفة، ربما تمتلك لساناً مُتمرِّساً وصورة ذهبية لدى مشاهديها، مما يغلق الباب أمام أي تطوير حقيقي يمكن أن ينقل المجتمع إلى الأفضل. بالإضافة إلى ذلك، يقود هذا الأمر إلى إفساد عقول عامة الناس وتخريب طرق التفكير السليمة، مما يؤدي إلى انتشار التطرف الفكري والأيديولوجي إلى جوار انتشار معلومات مقتطعة من سياقها تشيع حالة من وهمية المعرفة. وتشمل الآثار الكارثية أيضًا هروب العقول النيرة من الدولة، أو تدجينها وإفسادها لتتماهى مع الحالة العامة وتتناسب مع الإطار الفكري والمجتمعي السائد
الخطوة الأولى نحو التقدم والاستقرار
أول خطوة عملية نحو تقدم واستقرار المجتمعات والدول هي احترام الأكفاء وتقديرهم ووضعهم في أماكنهم المستحقة، قبل هذه الخطوة لا تسأل عن التقدم والاستقرار والنجاح الحقيقي. مع الأخذ في الاعتبار أن الكفاءة لا تعني امتلاك الشهادات العلمية فقط، بل تعني في المقام الأول امتلاك الفكر السليم، والرؤية العميقة الصائبة المدروسة بناءً على وعي علمي وإلمام، ورجاحة العقل، وأمانة الضمير. فهناك الكثير ممن يمتلكون الشهادات العلمية، ولكن يغيب عنهم الوعي العلمي وطرق التفكير السليم وأمانة الضمير.