قصة حياة القديسة تريزيا| «وردة نفيسة في حديقة الكنيسة».. في دير الكرمل (1888 - 1897)
قصة حياة القديسة تريزيا| «وردة نفيسة في حديقة الكنيسة».. في دير الكرمل (1888 - 1897)

قديسة لم تقتصر عظمتها على قلوب المسيحيين فقط، بل وجدت مكانا خاصا في قلوب المسلمين أيضا، تُعَدُّ رمزا عالميا للمحبة والتواضع والإيثار، إنها القديسة تريزيا الطفل يسوع، وما يجعل القصة أكثر إثارة هو أن القديسة لم تكن مجرد شخصية دينية عظيمة، بل كانت أيضا نقطة التقاء بين الثقافات والفنون، بفضل معجزاتها التي شهدت لها أعظم الأسماء في عالم الفن المصري، مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهما..
نقدم للقراء قصة حياة هذه القديسة عبر سلسلة رائعة من الأجزاء التي أعدها الأب كلود شفراي اليسوعي، والتي نشرتها مجلة المشرق في عام 1925، بعنوان “وردة نفيسة في حديقة الكنيسة” لنكشف تفاصيل مدهشة عن حياة تيريزا، تلك الفتاة التي نالت حب وتقدير الجميع بفضل روحها الطاهرة وسلوكها الذي يجسد القيم الإنسانية النبيلة.

3- في دير الكرمل (1888 – 1897)
«الطالبة والمبتدئة»
لعل القارئ يظن أن تريزيا بدخولها شذوذا في دير الكرمل وهي في ربيع العمر ستصبح عزيزة على جميع الراهبات مملقة من أختيها ماري وبولين مشمولة بأنظار الرئيسة. فكان الأمر على خلاف ذلك امتحانا لدعوتها لئلا تكون ترهبت لغاية بشرية، قالت: كانت الأم الرئيسة تعاميني بكل شدة فما كنت ألتقي بها حتى توسعني توبيخا، نسيت يوما في إحدى زوايا الدير نسيج عنكبوت فلامتني على إهمالي أمام جميع الراهبات قائلة: “قد أصبح ديرنا وسخا منذ وكلنا إلى الأخت تريزيا كناسته، ولا عجب فأنها طفلة في الخامسة عشرة من سنها، فاذهبي ونظفي ذاك النسيج وكوني مرة أخرى احرص على شغلكِ”.
وكانت الوكيلة ترسلني في كل مساء إلى الجنينة لأقلع ما فيها من الأعشاب الباطلة فأتت الرئيسة لتراقب شغلي فصرخت: “إن هذه الابنة تقضي ساعاتها في الفراغ والراحة، فأي حاجة لنا بترهب فتاة يجب كل يوم أن يفسح لها في التنزه”.. تلك كانت الكلمات القارصة التي كنت أسمعها وقد شكرت الله على تهذيبي في الرهبانية بهذه الطريقة الصارمة فماذا كان جرى لي لو كنت صرت ملهاة وألعوبة لراهبات الدير؟ فجعل الله نصيبي منذ أوائل حياتي الرهبانية صليبه المقدس فأعتنقتهبملء الرضى والحب.
وكانت صحة تريزيا نحيفة يستدل على ضعفها بشحوب لونها فكانت الراهبات يسمين ليعافينها من تلاوة الفرض في المساء أو من النهوض باكرا مع الجماعة، فما كانت الرئيسة لترضى بطلبهن فتقول: “إن نفسا كريمة كنفس تريزيا لا يجوز معاملتها كابنة صغيرة وهذه المعافيات لا تصلح لها لان الله يسندها”، ثم إن كانت أختنا مريضة فما عليها إلا أن تأتي وتعرض عليّ أمرها، أما تريزيا فكانت أخذت على نفسها أن تتبع القانون في كل دقائقه دون شكوى وكثيرا ما كانت تذهب إلى الصلوات الصبحية ورأسها يؤلمه الصداع الشديد فتقول: “إني سأقوم بكل واجباتي الرهبانية طالما يمكنني أن أخطو خطوة واحدة”.
«النذور»
بعد سنتين مرتا على امتحانات الابتداء دعيت تريزيا إلى إبراز النذور وذلك في يوم عيد ميلاد العذراء 8 أيلول (سبتمبر) 1890، لكن الشيطان أراد وقتئذ أن يلقي في قلبها القلق والسجس ويسول لها أن هذه ليست دعوتها فما لها إلا أن تعود إلى العالم، فاضطربت تريزيا من هذه الأفكار وذهبت إلى مرشدة المبتدئات تستشيرها في الأمر فما كان منها إلا أنها ضحكت لدى سماعها قولها وطمنت أفكارها، فكفى بهذا فعل التواضع ليكشف عن كربتها ويخزي عدو نفسها فأبرزت تريزيا نذورها وقلبها طافح بالسرور وكانت كتبت بطاقة وجعلتها على صدرها هذه صورتها: “يا يسوع إني أطلب إليك أن تمنحني حبا كاملا لا حد له هبني أن أموت شهيدة هبني شهادة القلب أو شهادة عذابات الجسد أو بالأحرى هبني الشهادتين معا”.
قالت: “وبعد أيام قليلة أتت ابنة خالتي “حنة غيرين” لتزورنا في الديوان وكانت اقترنت منذ عهد قريب بالزواج مع الدكتور “لانيل” فأخبرتنا بحبها لزوجها وبما كانت تحاول لتكسب رضاه، فشعرت قلبي يتأجج حبا نحو إلهي فقلت في نفسي: “هيهات أن يقال أن امرأة من أهل العالم تصنع لزوجها الأرضي أكثر مما أنا أفعله حبا بعريس نفسي الإلهي يسوع المسيح”.
فجعلت تريزيا مذ ذاك الحين الحب الطاهر نصب عينيها وهي التي كتبت في إحدى رسائلها: “إن المحبة هي دعوتي الخاصة”، والحق يقال أن هذه المحبة كانت كقطب حياة تريزيا، ولأن المحبة لا تقدم إلا بتضحية الذات أرادت أن تجعل حياتها كطاقة من المر تقدمها ليسوع المصلوب فكانت في كل حركاتها وسكناتها لا تطلب إلا التفاني والتضحية واحتمال الألم والأوجاع، فكانت تفضل معاشرة الراهبات اللواتي لا يميل طبعها إلى اخلاقهن بل أبت أن تطلب لها انشراحا بصحبة شقيقتيها الراهبتين لكي تصلب مع يسوع كل أشواقها الطبيعية وأميالها الجسدية.
ثماني سنوان صرفتها تريزيا الطفل يسوع تتأنق في إبراز حبها لعروس نفسها بأصناف التقادم والضحايا بكسر الإرادة والطاعة في أدنى الأمور وبممارسة التقشفات المتنوعة واحتمال الفقر المدقع والصبر الجميل على ضروب الآلام الداخلية والمحن الخارجية كصبرها على وفاة والدها الذي منحه الله ميتة صالحة جزاء على تقدمته خمس بناته لخدمة الله. وكانت تريزيا في كل ذلك لا تطلب إلا أن تكون محرقة كاملة يتصاعد قتارها إلى عرشه تعالى فيتنسمها برائحة مرضية.
ولم يشا عروس نفسها أن يغلب بالحب نحو تلك النفس الكريمة فغمرها بضروب نعمه الفائضة فسكب في قلبها ينابيع مواهبه وأضرمها بسمير حبه فكان صدرها كأتون النار المتقدة لا تجد راحة إلا في محبة الخالق حتى كاد ينشق قلبها أضرامه.
فكان بينها وبين يسوع محبوبها كسيول متماوجة تجري من نفسها إليه وتعود منه إلى نفسها فتزداد سميرا واضطراما. وكأن حبها لحالتها يحملها على أن تنشر محبته في كل الأنحاء وتربح له نفوس كل الخلائق، وكان لمزيد حب يسوع لخادمته أنه لم يرفض عليها شيئا مما تطلبه لمجد الله ولخير القريب وخصوصا للراهبات المبتدئات التي تعينت هي كمساعدة لمرشدتهن فكانت لهن نعم القائدة وخير قدوة. ولو شئنا أن نعدد هنا تلك الهبات الجليلة والمنح الخارقة العادة لمجزات الألسن عن وصفها.
«مرضها ووفاتها»
حسدت السماء أرضنا على هذه الدرة القيمة فأسرع الله الاستثمار بها لينقلها إلى الأخدار السماوية
كانت تريزيا منذ السنة 1895 أعلنت لرئيستها: “إني سأموت عما قريب ولست أقول بعد أشهر لكن بعد سنتين أو ثلث سنين على الأكثر فهذا ما أعلمه بما أشعر في نفسي”. ولما كان يوم خميس الأسرار في 2 نيسان (إبريل) من السنة 1896 عادت إلى قلايتها نحو نصف الليل قالت: “ما كدت أسند رأسي إلى المصدغة حتى شعرت بشبه موجة صعدت من صدري إلى شفاهي فظننت أني سأفارق الحياة فطارت نفسي فرحا لهذا الفكر ثم بقيت راقدة بهدوء إلى الساعة الخامسة ولما دق جرس النهوض قمت وكأني أنتظر بشرى بفرح عظيم وتقربت إلى نافذة قلايتي وإذا بمنديلي ينطف دما فتحققت أن حبيب نفسي يشعرني بقدومه القريب لفك أغلالي”
فبقيت نحو سنة ونصف تنتظر مع سراجها الموقد مجيء العروس على أنّ المرض كان أضعف قوة فيها من نار المحبة التي كانت تنيرها لآخرتها، وفي حزيران (يونيو) من السنة 1897 نقلت إلى غرفة المريضات فقالت عند وداعها لقلايتها: “إني قد تألمت فيها كثيرا وكنت وددت لو أسلمت فيها روحي”.
وكانت المبتدئات يأتين ليعدنها فيقلن لها: إننا نتأسف لرؤيتك في هذه الأوجاع المؤلمة، فقالت لهن: “إن الذي يسير في طريق المحبة لا يكدره شيء، ولو لم أشعر في كل دقيقة ببعض الآلام لكنت أفقد نعمة الصبر ومن ثم إني لا أفكر إلا بالدقيقة الحاضرة فإنها دقيقة النعمة ولذلك يجب الصلاة لاجل المنازعين لأن على تلك الدقائق تتوقف أبديتهم”.
وسألتها المبتدئات كيف كانت تدرك أخفى أفكارهن، فأجابت: “قد نلت هذه النعمة من العذراء الطاهرة فإني ما كنت ألقي عليكن أمرا إلا بعد الصلاة إليها.. آه كم يحبها قلبي فلو كنت كاهنا لكنت نطقت بمحامدها وريحت لها كل القلوب، فإن مريم أم حبيبة أكثر منها سلطانة جليلة”.
وفي 30 تموز (يوليو) مشحت المشحة الأخيرة، ولما حصل لها من التقيؤ لم يمكنها أن تتناول القربان الأقدس لكنها كانت عائشة في مناجاة الله وحبه الدائم إلى آخر أنفاسها، واذ سألها مرشدها: “أهي تسلم ارادتها للرب في حلول موتها؟” فأجابت: يصعب عليّ تسليم إرادتي في إطالة حياتي لا في قرب وفاتي.
وفي مساء النهار السابق لوفاتها جشمت يمامة على طرف نافذة غرفتها فأخذت تسجع وتطرب بغنائها كأنها تحيى الراهبة المنتقلة إلى جوار عروسها، ولما أشرق صباح اليوم الثلثين من شهر أيلول (سبتمبر) 1897 أسلمت تريزيا البارة روحها بين يدي خالقها، وكان آخر كلمة نطقت بها: “إلهي إني أحبك! كم تتوق نفسي إليك، ماتت وهي في عز شبابها لم يتجاوز سنها أربعة وعشرين عاما، وفي تشرين الأول (أكتوبر) نقل التابوت الحاوي لجسمها الطاهر إلى مقبرة ليزيو يتقدمه موكب جليل من الكهنة الذين أتوا ليشكروها على الصلوات الحارة التي قدمتها لله لتقديس نفوسهم.