قاطرة الثقافة

اسحاق بندري يكتب: القاهرة بعيون الرحالة الغربيين

قراءة في كتاب:A Cairo Anthology: Two Hundred Years of Travel Writing Edited by Deborah Manley Illustrations by Edward William Lane AUC Press

في هذا الكتاب الصادر عن دار نشر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، ومن تحرير ديبورا مانلي، بعنوان: «أنطولوچيا القاهرة: مائتا عام من أدب الرحلات» والذي يجمع مقتطفات متنوعة مما كتبه الرحالة الأوروپيون من انطباعات وملاحظات ويوميات في أثناء رحلاتهم إلى القاهرة، وما صادفوه من أخطار وطرائف، وكذلك انبهارهم بالقاهرة ذات التاريخ العريق والبالغ الثراء.
نقرأ في مقدمة الكتاب عن متعة استكشاف المدينة عبر شوارعها الضيقة وأسواقها الشرقية الطابع. ندخل الفنادق ونرتاد الحانات، نستأجر الحمير والجياد للطواف بها، نصعد إلى القلعة التاريخية وعبر صفحة النيل نتطلع إلى الأهرامات وأبي الهول؛ هذه الآثار العظيمة التي تبدو للعيان أكثر شموخًا مما يتخيل المرء، نتسلق إلى قممها لنحدق في القاهرة أم الدنيا.
عبر مائتي عام ما بين القرنين الثامن عشر والعشرين يقدم لنا الكتاب صورةً عن القاهرة التي طالما قصدها للرحالة عبر التاريخ وما زالت مقرًا للحكم ونبراسًا للثقافة ومركزًا للتجارة والأعمال، تفتخر بتاريخها ومتاحفها الزاخرة التي تحفظ تراثها عبر القرون.
يشمل الكتاب عدة أقسام؛ ترد في كل قسم بعض الاقتباسات عما رواه الرحالة بما يلائمه، كما تتناول موضوعات متفرقة مثل: تاريخ القاهرة، المساجد، الأسواق والشوارع، الحدائق، الأهرامات وأبو الهول، القاهرة وضواحيها ومقابر الخلفاء، وأخيرًا رسائل الوداع.
بدايةً من قصائد الشاعر البريطاني اللورد بايرون الذي لم يزر القاهرة قط إلا أن ما قرأه عنها ألهمه أن يقرض أجمل الأشعار، إلى الأميرة الرومانية مارتا بيبسكو وما دوَّنَته في رحلتها، من المغامر الإيطالي چيوڨانني بيلسوني الذي بدأ حياته لاعبًا في سيرك وانتهى الأمر به للتنقيب عن الآثار لصالح القنصل البريطاني، من الأكاديمي روبين فِدِن أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة صاحب المؤلفات عن التاريخ والمعمار وأدب الرحلات، إلى الليدي لوسي دوف جوردون التي زارت مصر للاستشفاء وقضَت بقية حياتها بها، بالإضافة إلى إدوارد ويليام لين؛ صاحب الكتاب الشهير عن عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، الذي لم يكتفِ بالكتابة فحسب ولكنه رسم بريشته أجمل المشاهد المفعمة بسحر الشرق، وكثيرون غيرهم مثل السير ريتشارد برتون ووليم ميكپيس ثاكيري ومارك توين.

زحام القاهرة


نقرأ عن القاهرة المعروفة بالزحام والصخب والحركة والدأب، في وصف دقيق للشوارع الضيقة في العصر العثماني. لا يخفي الرحالة إعجابهم باستتباب الأمن فيها وخاصة ليلًا، فمعظم الشوارع والأحياء بها بوابات يقوم عليها حراس وتوصد بحلول الليل. وبعض الشوارع لا يوجد بها إلا المحلات والمتاجر. تُشَيَّدُ البيوت ذات الطابع التركي حول ساحات واسعة، وإن كانت تفتقر إلى النواحي الجمالية المعمارية خارجيًّا إلا أنها تتسمُ في داخلها بطابع الزينة والفخامة، تُبنى طوابقها السفلية من الحجر والعلوية من الطوب اللبِن بما يشابه الأكواخ.
شاع وقتها أن أسواق القاهرة تتخذ من اسم المسجد الموجود في أرجائها لقبًا لها، أو من اسم التجارة أو الصناعة السائدتين في كل سوق كالنحاسين أو الجواهرجية، وبعض هذه الأسواق مغطاة من أعلى بأبسطة ممدودة فوقها.

الوكالات والخانات


روى الرحالة عن الوكالات والخانات التي تجمع بين نشاطين؛ الفنادق لإقامة التجار والدكاكين للتجارة. الوكالة عبارة عن بناء ضخم مهيب يحيط بفناء مربع. توجد في الطوابق الأرضية مختلف أنواع المتاجر والحرف، في حين أن الطوابق العلوية تشغلها غرف الإقامة، ودائمًا ما جاءت شكوى الرحالة من تداعي حالة سلالمها وافتقارها إلى النظافة. وصفَ الرحالة المقاهي المنتشرة بالمدينة ومنها ما يرتاده أصحاب تجارة أو حرفة معينة، وهذه المقاهي تُبنى من الخشب ولها أقواس وبها مصاطب خارجية.
اكتسبَ الرحالة متعةً كبيرةً من امتطاء صهوة الحمير والجياد والجمال كوسيلة مواصلات، لدرجة أن أحدهم قال إنه لا يمتطي الحمير إلا في القاهرة فقط، مع إمكانية استئجار سرج مناسب أيضًا بدلًا من إحضاره من الخارج، وروى بعضهم عن صياح وتدافع الصبية ممن يؤجرون الحمير للرحالة.

سكان القاهرة


وسكان القاهرة وفقًا للرحالة فهم خليط من الأتراك والعرب والأقباط والأرمن واليهود، والمترفون منهم يسيرون في المدينة على صهوة الحمير والجياد أو الجمال ذات الهوادج المُزركشة. كما اشتملَت شوارع القاهرة على قرابة ستين أو سبعين حمَّامًا عامًا، وهي مقصورة إما على الرجال فقط أو النساء فقط، أما بعضها فتفتح أبوابها للرجال صباحًا وللنساء عصرًا. وحمامات النساء تُغطَى مداخلها بشراشف قطنية تحجب الرؤية، أرضيتها يكسوها الرخام وفي داخلها نوافير وخزانات للمياه وفي أعلاها قباب ذات كوى تسمح بنفاذ الضوء.
كما دونوا ما عاينوه من بيع للجواري في أسواق النخاسة، إذ يذكر أحد الرحالة أنه رأي قرابة خمسين جارية ذات بشرة سوداء أو داكنة معروضة للبيع، وعرضَ عليه النخاس جارية بيضاء وصفها بجمال القمر واتضح أنها فتاة صغيرة تعاني من البدانة المفرطة. بالمثل كتبوا عن انتشار وباء الطاعون في النصف الأول من القرن الثامن عشر وتضارب الأرقام حول عدد ضحاياه وإن كان الأمر المؤكد هو تزايد أعدادهم بمرور الوقت.

قلعة صلاح الدين


أما عن قلعة صلاح الدين التي بُنيَت في القرن الثاني عشر فقد اقتُطِعَت الأحجار لبنائها من جبل المقطم أو من بعض الأهرامات الصغيرة بالجيزة، إذ جاء إنشاؤها كجزء من خطته لتحصين المدينة ضد الاعتداءات، وذكرَ أحد الرحالة قصة طريفة أن صلاح الدين وقع اختياره على موقعها الحالي لأن اللحوم تظل طازجة فيها دون فساد لوقت أطول مرتين من أي موقع آخر بالقاهرة. جرى ترميمها على يد محمد على باشا بعد أن تداعَت حالتها، وتكلفَت نفقات ضخمة لإصلاحها، فضلًا عن بناء جامعه الشهير وقصر الجوهرة بمحيطها.
أما عن مشهد القاهرة من أعلى القاهرة فيبدو شبيهًا بقصة خيالية يستفيض الرحالة في رسمها، إذ يطالع الناظر مئات المآذن والمساجد وشوارع المدينة الضيقة المتعرجة والبيوت العامرة بالحياة.


أما الشاعر البريطاني الشهير اللورد بايرون فقد كتبَ في قصيدته الشهيرة «دون جوان» مقطعًا شعريًّا عن الأهرامات جاء فيه:


«ما هو رجاء الإنسان؟
خوفو ملك مصر القديمة
شيَّدَ أول الأهرامات وأكبرها
ظنًا منه أنه لا شيء سواها
يخلد ذكراه
ويواري مومياؤه»
فالأهرامات هي ما يشهد على منافسة الإنسان للطبيعة وصراعه معها في مصر القديمة، لدرجة أن بناءها يعلو ارتفاعه ثلاث مرات عن التل الذي بُنَيت عليه، لتبدو الطبيعة ذاتها ضئيلة منكمشة أمامها. أما الأعجوبة الكبرى فتتمثل في تمثال أبى الهول المهيب في وحدته، الشامخ في عظمته، المنحوت من الصخر بكل جلاله الملكي كأنما يُذَكِّرُ من يراه عن مهابة الوجود في محضر الله ذات يوم.
نقرأ في خاتمة الكتاب أنه كحال كل الرحالة عندما يتقدم الوقت ويفر منهم، يتعين عليهم أن يتهيؤوا للرحيل، كما أن يودعوا الأصدقاء الجدد والأماكن المألوفة، ويتبقى لديهم حلم وخطة للعودة من جديد.
يختتم الكتاب بمقتطف مؤثر كتبَته الرحالة البريطانية ماريان بروكلهرست: «وداعًا أيتها القاهرة. بعد كل جولاتنا فيها، نستعيدُ ذكراها كأكثر مدينة ساحرة في العالم. بشوارعها الضيقة، مساجدها ومآذنها ذات الألوان المتعددة، تفوق في البهجة على مثيلاتها في دمشق واسطنبول. أسواقها الظليلة البراقة، زحامها العامر بالألوان. أيتها القاهرة، لن نرى مثيلًا لكِ ثانيةً!»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى