د.عبير بسيوني تكتب : صمود الثقافة والهوية الفلسطينية
الدكتورة عبير بسيوني&وزير مفوض بوزارة الخارجية

أولا: عناصر المقاومة الثقافية:
صدر مؤخرا بحث للاستاذ/سليم فهمي، بعنوان “المقاومة الثقافية: معركة الذاكرة والهوية الفلسطينية، تسليط الضوء على المقاومة الثقافية كأداة صمود في وجه محاولات الطمس والنهب الاسرائيلي للتراث والهوية”، تم نشره بالبرنامج الثقافي بمركز الخليج للأبحاث يعرض فيه كيف تواجه الثقافة الفلسطينية معركة الذاكرة والهوية في ظل الاحتلال الإسرائيلي بعدة أدوات.
أول هذه الادوات استخدام الفن التشكيلي كأداة مقاومة رمزية، بتجسيد الذاكرة الجمعية واستخدم الفنانون مثل إسماعيل شموط لوحاتهم (مثل “إلى أين؟” و”هنا كان أبي”) لتحويل معاناة اللجوء إلى رموز بصرية. فصوروا القرى المدمرة، واللاجئين، وخريطة فلسطين، مما حوَّل الفن إلى أرشيف بصري يحفظ التفاصيل الجغرافية والتاريخية التي يستهدف الاحتلال محوها. وبالترميز الثوري، بتحويل عناصر مثل “القبضة المضمومة” و”ثوب الفلاحة المطرَّز” و”شجر الزيتون” إلى رموز للإصرار والعودة، مستندةً إلى قاموس بصري يسهل تداوله شعبيًّا، خاصة في المخيمات حيث انطلق جيل من الفنانين غير المتخصصين. وأهم ايجابيات ذلك انه يحوّل المعاناة لرموز قابلة للتداول عالميًّا ويواجه هذا الاستخدام تحدي محدودية الانتشار خارج النخبة العربية.
اما ثاني الادوات التى يعرضها البحث فتتعلق بالتوثيق والأرشفة الذي يعد خط الدفاع الأخير بتوثيق الممارسات الإسرائيلية، فيجمع الباحثون الفلسطينيون شهادات عن انتهاكات الاحتلال (مصادرة الأراضي، تدمير القرى)، ويحولونها إلى مواد أكاديمية وفنية، وبذلك يحفظ روايات قد تندثر بوفاة كبار السن. يُعد هذا رفضًا لرواية “أرض بلا شعب” الصهيونية. ويعد الفن كبديل للإعلام في غياب التغطية الدولية المتوازنة، أصبحت الأفلام الوثائقية والمعارض الفنية (مثل لوحات شموط التي توثق “طريق العطش” من اللد والرملة) وسائل توثيق بديلة. ويواجه ذلك صعوبة التحقق الأكاديمي دوليًّا
يتعرض البحث ايضا للتضامن الثقافي العربي الذي يحتسب درع معنوي، بتبني الرموز المشتركة، مثل إطلاق اسم الفنان السوري حاتم علي (ابن الجولان المحتل) على شارع في طولكرم بما يؤكد وحدة القضية الفلسطينية مع المظالم العربية الأخرى. كما أن تأبينه في رام الله بعزف موسيقى مسلسلاته يدمج التراث السوري-الفلسطيني في نسيج ثقافي موحد. ونشر المقاطعة الثقافية يدعم مثقفون عرب مقاطعة المؤسسات الإسرائيلية ثقافيًّا، رافضين التطبيع تحت شعار “الثقافة مقاومة”. ويعزز التضامن العربي الشرعية الدولية للقضية، ويعيب هذه الآلية تراجع الدعم الرسمي العربي.
يرصد البحث ان أهم تحديات المواجهة الثقافية:أ-مصادرة الإبداع حيث تمنع سلطات الاحتلال إقامة معارض فنية في القدس الشرقية، وتعتقل فناني الجداريات (مثل رسوم الأسرى في بيت لحم). ب-تزوير التاريخ، حيث تدعم مؤسسات إسرائيلية روايات مزيفة عبر أفلام هوليودية ومتاحف تروي “إحياء أرض قاحلة”. ج-انقسام داخلي، لضعف التمويل الحكومي للثقافة في الضفة وغزة، مقابل دعم إسرائيلي لبرامج “تبادل ثقافي” تروّج للتطبيع.
يركز البحث على ما يُعرف بـ”الإبادة الثقافية” التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، حيث تسعى إسرائيل بشكل ممنهج إلى طمس الهوية والذاكرة الجمعية الفلسطينية من خلال استهداف التراث المادي والمعنوي مثل استهداف التراث الثقافي والمواقع الأثرية بتدمير متعمد لمواقع أثرية فلسطينية في غزة والضفة الغربية، مثل دير القديس هيلاريون وقصر الباشا. وقصف متاحف ومساجد تاريخية، منها المسجد العمري الكبير ومسجد السيد الهاشم. وتدمير رموز الهوية مثل تمثال الحصان في جنين ومفتاح العودة في طولكرم.
كما يتعرض البحث الي محاولات محو الذاكرة الجمعية الفلسطينية من خلال آليات: أ- تغيير أسماء الأماكن الفلسطينية إلى أسماء توراتية. وسرقة آلاف القطع الأثرية ونقلها إلى إسرائيل. ومنع الفلسطينيين من ترميم مواقعهم التراثية أو الوصول إليها. ب-التهويد الثقافي والتزوير التاريخي بنسب التراث الفلسطيني إلى إسرائيل، بما في ذلك الأزياء، الأكلات، والرقصات الشعبية. وبتحويل المواقع الفلسطينية إلى “معالم سياحية إسرائيلية” لتكريس الرواية الصهيونية.
ثانيا: الصمود ومبادرات الاستمرارية:
هناك العديد من المبادرات الفلسطينية للمقاومة الثقافية بمشاريع مثل “هوية” لتوثيق شجر العائلات الفلسطينية. وأرشفة الصور والوثائق وشهادات النكبة. وتدريب الشباب على حفظ الرواية الفلسطينية ومواجهة التزييف. ويوصي البحث أعلاه بمجموعة توصيات استراتيجية مثل:1. رقمنة الذاكرة بإنشاء منصات إلكترونية تجمع لوحات الفن التشكيلي الفلسطيني والوثائق التاريخية، مع ترجمتها للإنجليزية، لمواجهة حجب المحتوى الفلسطيني على وسائل التواصل.2.قانون ثقافة طارئ حيث يجب على السلطة الفلسطينية تخصيص 5% من موازنتها لدعم أفلام تسجيلية عن جرائم الاحتلال، وتأسيس متاحف متنقلة في المخيمات. 3.التحالف مع الحركات العالمية بالتعاون مع منظمات مثل *اليونسكو* لتسجيل التراث الفلسطيني (كالتطريز والزيتون) في قوائم التراث الإنساني غير المادي.
ان قراءة الصمود الشعبي يؤكد أن الثقافة الفلسطينية تُظهر أن الهوية أصلب من البندقية؛ فبينما يستطيع الاحتلال مصادرة الأرض، يفشل في محو ذاكرة تجسّدها لوحة شموط التي تصرّخ: “سنعود” . لكن النجاح مرهون بتحويل هذه المقاومة الرمزية إلى مشروع مؤسسي يُدمج الأجيال الشابة، ويواجه محاولات تزوير التاريخ بآليات إبداعية لا تقل خطرًا عن المواجهة المسلحة.
ان ما يجري ليس مجرد صراع على الأرض، بل صراع على الوجود والذاكرة. فالاحتلال يدرك أن السيطرة على الرواية تعني السيطرة على المستقبل، لذلك يسعى إلى محو كل ما يربط الفلسطيني بأرضه وتاريخه. لكن في المقابل، الثقافة الفلسطينية تُثبت أنها سلاح مقاومة لا يقل فاعلية عن أي شكل آخر من النضال. فمن الحكاية الشعبية إلى المفتاح المعلق على جدار لاجئ، ومن الأغنية التراثية إلى شجرة العائلة، يواصل الفلسطينيون حماية ذاكرتهم من النسيان القسري. إنها معركة طويلة، لكن كل وثيقة محفوظة، وكل قصة تُروى، هي انتصار صغير في وجه محو ممنهج.
إلا أن الهجمة الشرسة التى شنتها اسرائيل بدءا من ٧ اكتوبر ٢٠٢٣ أدت لوفاة اسر واندثار عائلات فلسطينية كاملة في حرب الابادة الاخيرة ومصادرة اراضيهم واملاكهم، كما ان حظر اسرائيل للأونروا المعنية باللاجئين الفلسطينيين بتعريفهم “أولئك الأشخاص الذين كانوا يقيمون في فلسطين خلال الفترة ما بين 1 يونيو 1946 وحتى 15 مايو 1948، والذين فقدوا بيوتهم ومورد رزقهم نتيجة حرب 1948”. يجعل سجلات أسماء الفلسطينيين (أصحاب الأرض) وعناوين اراضيهم بالنكبة الأولى وبالنكبة الحالي (أي سجل الهوية الفلسطينية وتوثيقها) في خطر ويستدعي تدخل عاجل من الجامعة العربية ومؤسساتها الثقافية المتعددة وخاصة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) فمن الضروري بدء التوثيق الفلسطيني(طالما الاونروا غير قادرة)- من خلال جيرانهم- بتوثيق اسماء وشجرة عائلات الشهداء في سجلات خاصة بأملاك الدولة الفلسطينية العامة بصقتها وارثة لهم وسيرتهم واراضيهم.
من هنا يحدر نهوض الجامعة العربية او بالالكسو وبتمويل من مؤسسات وصناديق عربية خاصة الصندوق العربي للثقافة والفنون بلبنان- بإقامة مركز توثيق خاص بفلسطين ومتحف دائم لفنون وتراث والفلكلور الفلسطيني يشارك بمعارض ووثائق عن الحق العربي والهوية الثقافية الفلسطينية في جميع المعارض والأحداث الدولية التي يتم تناول المسألة الفلسطينية فيها .