بريهان أحمد تكتب :رواية (مولانا) تحولت إلى قضية تفضح النفاق الديني وتزج بإبراهيم عيسى إلى قفص الإتهام
بريهان أحمد & كاتبة وناقدة أدبية

قصتي مع إبراهيم عيسى الروائي المتهم بالزندقة:

بدأت قراءتي لأعمال إبراهيم عيسى منذ مرحلة الليسانس في الجامعة، وكنتُ دومًا أشعر بالارتباك أثناء التفاعل مع كتاباته؛ ذلك أن حضوره الإعلامي يوحي بفهمٍ مشوّه له، يُبنى غالبًا على انطباعات سطحية، بينما تكشف كتاباته عن عقل يُحسن الدفاع عن الدين، بل ويتناول قضاياه العميقة بروح تحليلية ناقدة. لقد قرأت له شرحه المفصّل لقضية حادثة الإفك التي اتُّهمت فيها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فوجدت نفسي أمام مفكر لا يعادي الدين كما يُشاع، بل يسعى لتفكيك الخطاب الملتبس حوله.
كثيرًا ما سألت نفسي: هل ينبغي أن يُحاكَم هذا الرجل، أم أن يُستمع إليه ويُناقش؟ وقد اتخذت قراري بأن أضع أحد أعماله تحت مجهر الدراسة الأكاديمية، فاخترت إحدى رواياته موضوعًا للفصل الثالث من رسالتي للماجستير، التي جاءت بعنوان: ثالوث المحرمات في الرواية العربية بين الذكورة والأنوثة. وكان اختياري هذا محل جدل ورفض من بعض الأساتذة، الذين استنكروا أن يُدرس عمل لإبراهيم عيسى ضمن أروقة البحث العلمي، لكنني تمسكت بقراري إيمانًا بأن النقد لا يُمارَس إلا على أعمال تستحق التفكيك والتحليل.
وقد عقدتُ في هذا الفصل مقارنة بين روايته التي تناولت قضية التحول الديني، وبين عملٍ آخر لكاتبة تونسية اختارت قضية تحوّل يهود مدينة جربة إلى الإسلام، في إطارٍ فكري مختلف تمامًا عن طرح إبراهيم عيسى. كان كلٌّ منهما يعالج المسألة من زاوية مغايرة، وقد شعرت آنذاك أن عيسى نفسه يجب أن يُوضع في قفص الاتهام، لا بوصفه متهمًا بالكفر أو الزندقة كما يُقال، بل ككاتب جدير بأن يُحاكم فكريًّا، ويُناقَش أدبيًّا، ويُقرأ بوعي لا بعصبية.
لقد آمنت أن دور إبراهيم عيسى يجب أن يكون في الكتابة لا في السجال، وأن دورنا نحن هو أن نقرأ له ونفكر معه، لا أن نهاجمه دون فهم. بدأت رحلتي مع أعماله منذ ذلك الحين، ولا تزال مستمرة. وربما لا يعلم حتى اللحظة أن واحدة من رواياته قد خضعت للتحليل الأكاديمي في أحد أروقة الدراسات العليا، وأن قارئًا ما – كنتُ أنا – قرأه بنيّة الفهم لا بنيّة الإدانة.
تُعدّ رواية مولانا لإبراهيم عيسى واحدة من أكثر الروايات جرأة في مسّ التابوهات العربية، لا سيّما حين يتعلّق الأمر بثالوث الدين والسلطة والجنس. ومن خلال الفصل الثالث من دراسة نسوية تناولت هذا العمل، تتّضح الرؤية التي تزيح الهالة المقدسة عن رجل الدين، وتكشف عن آليات التوظيف السياسي والديني للجسد والكلمة.

المقدّس حين يتحوّل إلى قناع:
ينطلق إبراهيم عيسى في مولانا من شخصية “حاتم الشناوي”، الشيخ الأزهري الذي يصعد إلى المنبر ليتحدّث باسم الدين، لكننا في الرواية نراه متلبسًا بصراعات داخلية بين الضعف البشري والقداسة المُدّعاة. فهو ليس مجرّد واعظ أو رمز ديني محايد، بل هو إنسان يتقلّب بين الشهرة، والسلطة، والرغبة، والخوف، وهو ما يجعل الرواية تنزع القداسة المصطنعة عن رجل الدين، وتعرضه كنتاج لمجتمع يستخدم الدين أحيانًا كأداة سلطة.
تبيّن الدراسة أن الرواية تكشف ازدواجية الخطاب الديني، حيث يُقدَّم الدين في صورته التقديسية للشعب، بينما يُستعمل في الواقع كوسيلة للتكسّب والتقرّب من دوائر النفوذ. فالأحاديث النبوية تُنتقى بما يخدم المصالح الشخصية، والفتاوى تُصاغ حسب الطلب. ومن خلال شخصية حاتم، يعرّي عيسى هذه المفارقة: رجل الدين الذي يتحدّث عن “رضاعة الكبير” في البرامج التلفزيونية لا يهدف إلى إثراء الوعي، بل إلى حصد المشاهدات.

المرأة في حياة رجل الدين: من الهامش إلى الكاشفة:
تتناول الدراسة دور المرأة في مولانا من زاوية مختلفة؛ لا كعنصر محوري مستقل، بل بوصفها مرآة تُعرّي التناقضات الداخلية للرجل “الشيخ”. فزوجة حاتم لم تكن سوى ظلّ باهت في حياته، تعاني من الفتور والخذلان؛ فقدت فيه معنى “السند”، وتحولت العلاقة بينهما إلى روتين خاوي، مجرد بقاء شكلي لزواج ميت. لكن أهمية هذه المرأة، كما توضح الدراسة، لا تكمن في حجم حضورها بل في قدرتها على كشف هشاشة “رجل الدين”.
بعبارة أخرى، فإن المرأة هنا تمثّل نقطة الضعف داخل القداسة الذكورية، وتُستخدم لتفجير التناقض الذي يكمن في رجل يُنظّر للناس عن مكارم الأخلاق، بينما يعاني في بيته من انعدام الحميمية وفقدان المعنى. إنها ليست فقط زوجة مهملة، بل تمثيل نقدي لحدود السلطة الذكورية التي لا تنجح في إدارة بيتها بينما تتحدث عن إدارة أمة.

السرد بوصفه تفكيكًا: السلطة والدين في مشهد واحد:
تُظهر الرواية، كما توضح الباحثة، كيف أن التديّن في المجتمعات العربية قد تحوّل إلى أداة للسيطرة. فالسلطة تستثمر في الدين، والدين يمنح الشرعية للسلطة، وهكذا يُخنق الفرد بين مطرقة الفتوى وسندان السياسة. مولانا لا تتردّد في فضح هذا التواطؤ، من خلال المشهد المتكرر لرجل الدين على شاشات التلفاز، يتحدّث بوجه تقيّ، بينما دوافعه محض دنيوية: شهرة، مال، نفوذ.
يصل التلاعب إلى قضايا شديدة الحساسية مثل زواج المتعة، الرق، ورضاعة الكبير، حيث يتم تداولها بسطحية إعلامية بعيدًا عن الفهم المقاصدي للدين. وهذا ما يجعل الرواية عملًا متمردًا، يعيد تأويل العلاقة بين الفقه والواقع، ويضع “الدين المُؤدلَج” تحت مجهر التفكيك.
• حاتم الشناوي: الراوي المُصاب بالذنب:
من أبرز ما تناولته الدراسة هو التحليل النفسي لشخصية حاتم. فهو ليس رجل دين جامد، بل شخص مأزوم، يحمل بقايا ضمير يحاول الصراخ وسط زحام الأضواء والكاميرات. داخليًا، يعاني من العوز الجنسي والمالي، ومن احتقار للذات، ورغبة في الهروب من كل ما يقدّمه للناس باعتباره “حقًّا إلهيًا”. ورغم أنه يعرض نفسه بصفته مرشدًا أخلاقيًا، فإنه كثيرًا ما يدخل في حوارات داخلية تكشف هشاشته، وانكساره أمام مغريات السلطة.
وهو بهذا يعيد تقديم صورة رجل الدين، ليس كناصح نقيّ، بل كإنسان يخوض صراعاته مع نفسه، مع الدين، ومع الواقع الذي يفرض عليه الانحناء أو السقوط.

التحول والهوية: قضية الإيمان لا الانتماء:
تناول الفصل أيضًا قضية التحوّل الديني من الإسلام إلى المسيحية، أو العكس، باعتبارها اختبارًا عميقًا للفرد وللمجتمع. وتبيّن الرواية أن “الإيمان” في هذه الحالة ليس حالة مطلقة، بل هو صراع داخلي شديد التعقيد، خصوصًا في ظل التوظيف السياسي لكل تغيير في العقيدة.
فرجل الدين في الرواية لا يرى في التحول قضية إيمان، بل فرصة للحديث عن “الفتنة الطائفية” وخطورة “الردة”، دون النظر إلى السياق الإنساني للشخصية. والرؤية النقدية في الدراسة توضح أن حاتم الشناوي كان مدفوعًا في مواقفه ليس بإيمان خالص، بل بالخوف من فقدان مكانته الاجتماعية، ومن خسارة حضوره الإعلامي.

الرؤية النسوية والتحليل الجندري:
ما يميز قراءة الرواية من زاوية نسوية، كما يتضح من الدراسة، هو أنها ترفض اعتبار الشخصية الأنثوية مجرد ديكور في العمل، بل ترى في حضور المرأة كاشفًا للخلل الذكوري المؤسس. كما تشير إلى أن الدين – كما يُقدَّم في الرواية – ليس بالضرورة معتدًى عليه من الخارج، بل مخترق من داخله عبر ألسنة تدّعي تمثيله وهي تسعى وراء الكاميرا لا وراء الحقيقة.
وتؤكّد الباحثة أن الرواية بهذا تكشف تهافت سلطة “المقدّس الذكوري”، من خلال سردية تجعل القارئ يعيد التفكير في موقع الدين من الواقع، وفي دور رجل الدين من الناس، وفي العلاقة الملتبسة بين الإيمان والمؤسسة الدينية.
• هل نؤمن حقًا أم نهرب؟ رواية “مولانا” تفضح التحوّل الديني كأزمة سلطة لا قناعة:
في روايته الجريئة مولانا، يفتح إبراهيم عيسى بابًا شديد الحساسية في المجتمع العربي، وهو التحول من الإسلام إلى المسيحية والعكس، لا ليثير الجدل، بل ليكشف ما هو أعمق: أنّ التحوّل الديني في كثير من الأحيان ليس نتاج قناعة إيمانية، بل هروب من هوية مأزومة أو مجتمع مختل.
الشخصية التي تحمل هذا العبء في الرواية هي “حسن”، شاب مسلم، نجل شخصية نافذة (صهر نجل الرئيس)، يُعلن رغبته في اعتناق المسيحية. من هنا تبدأ معركة الشيخ “حاتم الشناوي”، الذي يُستدعى لإنقاذ الموقف، لا باسم الدين، بل باسم “السمعة”، وباسم “الدولة”. يُطلب منه إقناع حسن بالعدول عن تنصّره، ليس حرصًا على روحه، بل حرصًا على صورة النظام.
لكن “حاتم” يُدرك أن حسن – أو “بطرس” كما بات يُسمي نفسه – لم يتحوّل عن قناعة، بل عن تمرد وارتباك نفسي. يخبره بصراحة في حوار مؤلم:
“أنت تريد التحول للمسيحية رسميًا لسبب لا يمكن أن يكون له علاقة بأي من الدينين… فأنت لم تفهم الإسلام ولا تعرف المسيحية، ولكنك حر…”.
يتحول الحوار بين الشيخ والفتى إلى ما يشبه الغرق في محيط عميق – كما شبّهه حاتم – لا أحد فيه يفهم من أي باب يدخل الإيمان، ولا كيف يُنقذ الآخر من التيه. “حسن” لا يبحث عن عقيدة، بل عن كينونة بديلة تخرجه من خيبة الواقع، بينما “حاتم” نفسه مأزوم بين قناعاته الخاصة ومتطلبات “الدور” الذي فُرض عليه.
الرواية لا تقدم حاتم كبطل؛ بل تظهره كضحية أيضًا. ضحية خوفه من فقدان منصبه، من فشل المهمة التي كُلّف بها، ومن سقوطه في نظر السلطة. هو يدرك أن حرية العقيدة لا تُمارَس، بل تُراقَب. وأنّ المطلوب منه ليس أن ينقذ حسن، بل أن يمنع الفضيحة.
الكاتب يُحمّل الرواية نقدًا لاذعًا لمؤسسة السلطة الدينية، التي تتعامل مع العقيدة كـ”ملف حساس”، لا يجوز تجاوزه دون إذن، ولا الخروج منه دون تحقيق. بل إنه يُبرز أن الدين ذاته يُختزل في رجال الدين، وأنّ الأزمة الحقيقية ليست في العقيدة، بل في من يُمثّلها.
أما “حسن”، فهو الشخصية المفصلية التي تكشف هشاشة البنية النفسية للمجتمع الذي لم يعلمه دينه بقدر ما أرهبه منه، ولم يمنحه إيمانًا بقدر ما قمعه بمظاهر التدين.
وفي واحد من أكثر المشاهد قسوة وسخرية، يُظهر السرد أن “بطرس” لا يعرف شيئًا عن المسيحية، تمامًا كما لم يفهم يومًا الإسلام. لم يقرأ، لم يتأمل، فقط اختار الهروب من دينٍ لم يمنحه الأمان إلى آخر يتخيله أقل قسوة، في مشهد يُجسّد عبثية التحوّل الديني عندما ينفصل عن جوهر الإيمان.
وفي خضم هذا الصراع، تظهر مقولة الرواية واضحة:
“التحوّل الديني حين يُنتزع من سياقه الإيماني، لا يكون قضية عقيدة، بل أزمة هوية، وقهر سياسي، وتيه نفسي.”
هكذا تنزع مولانا القناع عن واحدة من أخطر القضايا في المجتمعات العربية، وتطرح تساؤلًا وجوديًا مرعبًا: هل نحن نؤمن لأننا نؤمن؟ أم لأننا لا نملك الحق في أن لا نؤمن؟.

خاتمة: هل استطاع “مولانا” أن يكون صوتًا تفكيكيًا؟
نعم، مولانا لم تكن رواية عن رجل دين فحسب، بل كان صوتًا تفكيكيًا لمؤسسة قائمة على التداخل بين الدين والسلطة والذكورة. وهو عمل روائي يقف في منطقة حرجة بين الفضح والإصلاح، بين التعرية والبناء. ويحسب لإبراهيم عيسى أنه قدّم نموذجًا أدبيًا يجمع بين السرد المتماسك والتحليل الرمزي العميق، وهو ما سمح لقراءته – كما في هذه الدراسة – بأن تكون قراءة متعددة المستويات: نفسية، نسوية، فكرية، وسياسية.
والأهم أن الرواية لا تهاجم الدين، بل تحاول إنقاذه من المتحدثين باسمه. فـحاتم الشناوي هو رجل دين تائه، يشبه كثيرين، يبتسمون أمام الكاميرات، ويبكون في غرف نومهم.
