بريهان أحمد تكتب :بيت المقاطيع للروائي مصطفى الشتتاوي رواية شعبية
بريهان أحمد & كاتبة وناقدة أدبية

تتميز القراءة بسحرها الأخّاذ؛ فهي الوسيلة الوحيدة القادرة على انتشال الإنسان من أحلك الظروف الإنسانية التي قد يمر بها. فمن خلالها، نستطيع أن نحلق بأفكارنا بعيدًا، ونعيش حيوات متعددة، ونرى العالم من زوايا مختلفة.
منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أتصفح أحدث الإصدارات في معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2025 ، لفت نظري عنوان رواية غريب وجاذب في آنٍ واحد(بيت المقاطيع) استوقفني العنوان بشدة، وبدأ ذهني يعصف بالتساؤلات والاحتمالات، متخيلةً أن الرواية ستنقلني إلى عالم من الفانتازيا أو تحاكي معاناة الهامشيين والمنبوذين والصعاليك مثل روايات الروائي المصري خيري شلبي.
ولأنني أعرف الروائي معرفة طيبة، لم أتردد في سؤاله عن مضمون الرواية، فكانت المفاجأة أن العمل يتناول قصة المماليك وآل العثمانيين! هنا أدركت أن اختيار العنوان ليس مجرد تفصيلة هامشية، بل هو عنصر لا يقل أهمية عن مضمون الرواية نفسه، بل قد يكون بوابة أولى لفهمها أو مفتاحًا لتأويلها.

المكان المتخيل :
شرعتُ في قراءة الرواية، وفي حقيقة الأمر، أخذتني إلى عالمها البعيد؛ حيث قرية لا وجود لها على الخريطة، لكنها تأسست على كبرياء امرأة تُدعى الحاجة بداري؛ تلك التي وقفت صامدة في وجه الوالي الظالم وجنود المماليك المرتزقة، الذين لا ولاء لهم سوى لجمع الضرائب من الفلاحين. كان السؤال الذي راودني آنذاك: هل هناك قرية فعلًا تُسمى “البداري”؟
أجابني الكاتب بأنه لا وجود لمكان بهذا الاسم في الرواية، وأنه محض خيال، إذ استوحى فكرته من مشهد بسيط في أحد شوارع القاهرة، حين شاهد أمًّا تدافع عن ابنها بعدما تلقّى صفعة من أحد المارة. في تلك اللحظة، طرق الإلهام عقل الكاتب، وسأل نفسه: هل تستطيع الأم، بكل ما تحمله من حنان ورقّة ودفء، أن تقف في وجه الظلم؟
جاءت الرواية محاولة للإجابة عن هذا السؤال، داخل عالم متخيَّل صنعه الكاتب من العدم، لكنه كان غنيًّا بالتفاصيل والشخصيات، وكأنما هو واقعٌ ينبض بالحياة. فقد كانت بداري – الأم – أكبر دليل على قدرة المرأة على مواجهة البطش، بعد أن وقفت في وجه جنود المماليك الذين قتلوا ابنها بكر .
تميّزت الرواية بقدرتها على خلق مكان داخل المكان، من خلال البيت المهجور الذي كان يلجأ إليه بكر وصديقه حميد؛ هذا البيت الذي جمع بينهما بحب مشترك وغامض ورغبة في تملكه لييصبح أكبر مكانا في القرية كلها، وأصبح رمزًا للهروب، وربما للانتماء.نفهم من هذا كله أن” … المكان عنصر تجتمع فيه ومعه كل العناصر الاخرى المكونة للعمل الروائي، ونرى ان الشخصيات تتفاعل مع المكان بوصفه عاملا فاعلا وموثرا في بناء الحدث وتصاعده. ومن هنا جاءت الفكرة لدراسة المكان في الرواية الحديثة ورصد التحولات الكبرى التي طالت المكان وهو في صعوده من المتخيل الى الافتراضي”.

اللغة الشعبية والتأثر بالقرآن الكريم :
تُعدُّ الرواية عملاً لغويًا بالغ التحدي؛ إذ إن أول ما يجذبني في أي عمل أدبي هو لغته، لا سيما حين تكون لغة قادرة على حمل المعنى والإيحاء في آن. وقد تميزت هذه الرواية بلغتها المتفردة، التي جمعت بين الفصحى ذات البُعد المعجمي واللغة الشعبية النابضة بالحياة، في مزيج لا يجيده إلا كاتب يمتلك ناصية التعبير ومهارة المزج بين المستويين التعبيريين، وهو ما برع فيه مصطفى الششتاوي.
إن هذا التوظيف الذكي للغة ليس جديدًا على تقاليد السرد العربي، فقد رأيناه عند كبار الكُتّاب أمثال خيري شلبي ويوسف إدريس في القصة القصيرة، وجمال الغيطاني في أعماله التاريخية، حيث تم دمج لغة المهمّشين والصعاليك بالحس البلاغي للفصحى. وهذا الدمج لا يُضفي فقط صدقًا واقعيًا على الشخصيات، بل يُثري التجربة الجمالية ويجعل القارئ يتماهى مع النص، كما لو كان يشاهد مسرحية حيّة أو مسلسلًا دراميًا يعيده إلى زمن “الزيني بركات” أو “أبو زيد الهلالي” في دراما التسعينيات.
أما الأجمل من ذلك، فهو حضور التناص القرآني في لغة الكاتب. فقد استلهم نبرة القرآن الكريم وبنيته الحكائية في بناء شخصياته، لا سيما حين يتحدث عن المرأة في شخصيتي “بداري” و”فاطمة”، وحين يظهر “الأعرج” تلك الشخصية التي تحاكي الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى، قال : يا قوم! هذا التناص لا يأتي عرضًا، بل يعكس خلفية معرفية وروحية لدى الكاتب، تجعل من الرواية خطابًا مركبًا بين قرية البداري الناقمة على المماليك وروح المتمردين لاصحاب الحق وهم أهل القرية .
وربما يكمن التحدي الأكبر الذي خاضه الكاتب في قدرته على إدارة هذا الكم من الشخصيات أكثر من أربعين شخصية داخل فضاء روائي واحد، دون أن يفقد القارئ خيط السرد أو يتشتت البناء. فهذا التعدد، وإن أغنى النص، يُعد عبئًا على الكاتب، إذ تتشابك الأفكار وتتغلغل في وعيه، ويصبح من الصعب أن يفرض على النص بابًا للنهاية. لكن الكاتب، ببراعة تُحسب له، نجح في أن يجعل من هذا التشابك نسيجًا حيًا يتنفس بالإبداع والمتعة التي تجذب القارئ.

دور المرأة في الرواية :
كنت مستمتعة للغاية أثناء قراءتي لعمل الروائي مصطفى الششتاوي، وآثرت أن أشارك انطباعاتي حول ما يميز هذا العمل الإبداعي، دون أن أُفسد تفاصيله أو أكشف عن مجريات الأحداث. اخترت أن أُسلّط الضوء على الرمزية العميقة التي يتضمنها النص، لا سيما في تجسيده لفكرة الوقوف في وجه الظلم، ورفضه مهما كانت هوية من يتصدى له سواء كانت أمًا بسيطة مثل بداري، أو غيرها ممن يسعون جاهدين لاسترداد حقوق أبنائهم.وأظن أن الرواية لا تنتمي إلى التصنيف التاريخي الصارم المادي، بقدر ما تُعد نموذجًا راقيًا للأدب الشعبي؛ لما تحمله من ملامح سردية وتفاصيل تُجسّد حياة الناس البسطاء، وتعكس همومهم ومقاومتهم، كما استنتجت من تحليل دلالاتها وبنيتها السردية.
