إسحاق بندري يكتب: ليالي الهدنة.. قرابين الحب وأضحياته
إسحاق بندري يكتب: ليالي الهدنة.. قرابين الحب وأضحياته
في مسرحيته الشهيرة الصادرة في العام 1957والتي تحولت إلى فيلم سينمائي يحمل نفس العنوان: “فجأةً في الصيف الماضي” يصور الأديب الأمريكي تنيسي وليامز مشهدًا دمويًا يلقى فيه سيباستيان ڨينبل حتفه إذ ينهش الأطفال المشردون لحمه حيًّا إبان رحلته إلى إسپانيا مع قريبته كاثرين والتي بدورها تُحْتَجَزُ بعد ذلك في مصحة عقلية بسبب حالات الهستريا والذهان التي تعتريها من دموية المشهد الذي عاينته بما لا يقل بشاعةً عن طقوس تقديم الأضحيات البشرية في العبادات القديمة, فضلًا عما كابدته من استغلال جنسي على يد سيباستيان. تجد كاثرين نفسها في مأزق جديد بسبب رغبة عمتها ڨَيلُت (أم سيباستيان) في إخراسها للأبد حتى لا تفضح ماضي ابنها بهلاوسها.
رواية منى العساسي
يستدعي القارئ هذا المشهد البربري عند وصوله للصفحات الأخيرة من رواية منى العساسي “ليالي الهدنة: مطارحات الألم” والصادرة عن دار ميريت. ففي آخر فصلين ما يجلي الغموض الذي يحيط بالقارئ أثناء مطالعته ليوميات ليالي الهدنة العامرة بهلاوس أليمة ورثاء للذات تحكيها الساردة, باستخدام تقنيات تيار الوعي لإظهار وجهة نظر الساردة بالتركيز على عالمها الداخلي المضطرب من خلال انسياب الأفكار واستطرادها, وليس من الضروري أن يكون مترابطًا, بما يفرض على القارئ التمعن في قراءة المشاهد المفككة عبر جريان الأفكار وتدفقها, في نفسية مرتبكة مشوشة تراجع مواقفها السابقة كأنما تحاكم نفسها.
الفصل الختامي الذي يحمل عنوان “الخروج” بكل الدلالات التوراتية للكلمة عن التحرر من عبودية ما, هو بداية الأحداث التي نطالعها في الليالي, عن سيدة مُطَلَّقة حديثًا, استيقظتْ من نومها متوهجة ومفعمة بالحياة. وهي الآن واقعة بين صراعين؛ تحررها المرتقب من ناحية واحتياجها المادي لطليقها من ناحية أخرى. هاجس التصالح تغلبه الذكريات المريرة عن قتله لطموحها ورغبته في إبقائها في دائرته الضيقة وتصيده الأخطاء وشجاره لأسباب واهية, إحساسها بالتسفيه والابتذال والقهر, فتقرر أن كل ذلك لن يهزمها ثانية. ولكن المغامرة المقبلة بعد الثورة هل يُضْمَنَ لها النجاح؟ هل جازفَتْ لأجل ما لا يمكنها التحقق منه؟
الثورة العارمة بدأت في الفصل السابق للأخير “ليلة فقدتْ ترتيبها” وهي ذروة اختلاج نفسها الدامية بعد أن بلغ الخذلان مداه. باكتشاف أنها صنعتْ إلهًا كاذبًا, لم يسمع صلواتها ولم يرحم ضعفها وعجزَ عن فهم حبها, فتقرر قتله في مشهد مسرحي دامٍ في خيالها. تتصدر هذا المشهد ككاهنة من العصور السحيقة, تُقَرِّبُ أضحيةً بشريةً, وتلتهمها انتقامًا وتشفيًا في همجية مفزعة مع جمع صاخب يتناوب على نهش أضحية الإله المحبوب والتخلص منه. ولكنها في عمق ذاكرتها تنتقم من مشهد آخر قديم؛ فمنذ طفولتها تتصور نفسها مخمورة في حفل راقص, تتناقلها الأيادي العابثة كدمية, يتصارعون عليها ويحطمونها ثم يلقون بها وينفضون باحثين عن غيرها.
من خلال المنولوج السردي الطويل عبر الليالي يستكشف القارئ ملامح المحبوب ـ الإله, الذي تشير إليه الساردة بالرجل الخمسيني, دونما ذكر لاسمها أو لاسمه. والملاحظة اللافتة للانتباه أن هذا الرجل الخمسيني, الشبيه بمستعمر بغيض, لا يعبر عن شخصية واحدة, بل يتماهى مع العديد من الشخصيات الأخرى. على كل حال فهو يشير إلى المجتمع الذكوري ـ الأبوي ـ البطريركي, الذي لم يفعل شيئًا في حياة الساردة سوى الخذلان, وتركها وحيدة في مواجهة واقع عصيب دونما سابق إعداد أو تأهيل, ولم يكترث حتى بمحاولة فهمها. هذا الرجل الخمسيني حاله كحال مجتمعه؛ كاره لنفسه يرثي خيباته وخياراته الخاطئة, مأساته جعلته مدمنًا على كل ما هو قاتل, وفي الوقت ذاته لا يتردد في تدمير من بادرتْ بتقديم الحب الجارف المخادع للعقل بدرجة ما, فلا ينكر انبهاره بجمالها, وتتعلق هي به ولا تخرج منه سالمة كما كانت. ربما كانت تبحث عن تعويض ما في محبوب خمسيني يقدم لها ما افتقدته في نموذج أبيها. الطفلة لم تكبر وما تزال كامنة بصراخها وصخبها في ذاتها تتوق لما لم تجده, فتتورط مع من لا يُقَدِّرُ قيمتها ولا تجد سوى المزيد من الاستخفاف والتجريح. لكنه ضَنَّ بنفس ما بخلَ به الأب.
هلاوس الساردة تختلط فيها المشاعر بين من تمسكَتْ بهم ولم يترفقوا بها, وبين من قررَتْ فراقهم موقنةً في داخلها أنهم لن يجدوا مثلها ولن يذكروا سواها وتظل تفاصيلها حاضرة في أية امرأة أخرى تدخل حياتهم. قسوة مشاعر الانسحاب بعد إنهاء علاقة ما والإحساس بالحنين وانتظار المبادرة بالاتصال من الطرف الآخر أو الإقدام عليها من ناحيتها. تزامن الضحك والبكاء وعدم التصديق, التحديق المستمر في الهاتف, ظنتْ نفسها منقوشةً في روح محبوبها فإذا به محبوب قاسٍ يهجرها وتهون عليه. هل كان الحب زائفًا والاهتمام كاذبًا؟ الوقت الذي يمر ثقيلًا في ترقب مرير, شعورها بالوصول متأخرة دومًا. فأسوأ ما في الحب الشعور بالفقد, وأسوأ ما بعد الفقد الحنين. التضارب ما بين الثقة في أحدهم ثم الخوف من انعدامها والفزع من الرفض والفراق والهجر. نوبات ندمها على إسرافها في تعاطي حب الرجل الخمسيني, خشية متبادلة بينهما, فمن يحب بتطرف يهجر بتطرف أكبر. غيرتها القاسية حتى من استماعه لأغاني فيروز, من ابنته, ألا يستحضر تفاصيلها مع أي امرأة أخرى.
ثم تتخذ الأسئلة محورًا آخر, عن فكرة الألم في الحياة, فهل أتَتْ إلى هذه الحياة لتعاني؟ تكتنفها الحيرة بين ما تريده وما تخشاه؟ الوقوف في منتصف الطريق مثقلةً إلى حد السقوط تعبًا. استعمرها الخمسيني حبًا ولم تُصِبْ سوى الفراغ, تعصف بها محدودية قدرتها ولا محدودية طموحها. تتصور أن ثمة امرأة أخرى داخلها تسوغ لها كل ما هو محرم وقد تعيد هيكلة أفكارها لتسيرها في طرق ملتوية وتستلذ لها الهواجس. لتبدو حياتها جُبًّا مظلمًا, فكل من حسبته المُخَلِّص ألقى بها في ظلمة أكثر فداحة. فهل يكون الموت أشد قسوة من كل الفوضى التي سحقتها؟ هل ما كانت تطلبه وترجوه من الصعوبة والاستحالة لتقتات في نهاية الأمر على فتات المحب الخمسيني؟ يراها منطفئةً بعين عجزه ولا يحرك ساكنًا. كأنها أحبتْ أحمق لا يضعها ضمن أولوياته, أم أنها هي الحمقاء الباحثة عن الحب وعمن يرحم ضعفها ويضعها في مكانة لا تشغلها أخرى. ورغم كل ذلك تظل تبحث عنه وعن كلمة منه. الصراع الأزلي بين أپوللو وديونيسيوس, بين العقل الرافض والقلب المولع. اختلاق الأعذار ثم إفحامها, في نفسية تتشاجر فيها الطفلة النزقة مع الأنثى الناضجة.
هذا التوق الجارف نحو الارتواء والإحساس بالقيمة كان يدفع الساردة دفعًا نحو علاقات لم تثمر لها سوى الإحباط والتشتت والهلوسة. لتطرح التساؤل الأكبر عن مصداقية مشاعر الحب والشوق والانجذاب, ما تغرسه مقابل ما تحصده, وهل لا تزيد عن كونها توهمات كبرى. الحب يخلق عوالم ساحرة في وجود المحبوب وربما تُلاشي من الإحباط العاصف في غيابه. هل هذه الحالة حقيقية أم خيالات يسقط فيها الإنسان بمحض إرادته. لا تختلف النهايات الحزينة للحب الرومانسي عن نهايات الانغماس الإيروتيكي, كلاهما لا يُشْبِعان بل يتركان ندوبًا وتشوهات يسير بها البشر ما تبقى لهم من العمر, من لحظة اكتشاف مقتل براءة الطفولة وأن العالم قد غَيَّرَ أجمل ما فيهم, بعدما اختاروا علاقات سامة.
أزمة يلخصها الأديب البريطاني سي إس لويس في استهلال كتابه “المحبات الأربع”:
“إن كل محبة بشرية في ذروتها ميالة لأن تَدَّعي لنفسها سلطة إلهية. حيث يميل صوتها لأن يكون له وقع صوت الله نفسه. فهي تقول لنا إنه علينا ألا نحسب النفقة وتطالبنا بالالتزام الكامل وتحاول أن تطغي على جميع المطالب الأخرى, وتوسوس لنا بأن أي عمل نقوم به مخلصين لأجل المحبة هو بذلك مشروع, بل جدير بالمكافأة أيضًا. إنما الآن يجب أن نلاحظ أن المحبات الطبيعية تدعي هذا الادعاء التجديفي ليس عندما تكون في أسوأ حالاتها الطبيعية بل في أحسنها, عندما تكون مخلصة أو نبيلة, وهذا واضح خصوصًا في المجال الجنسي, فإن الشغف المُخْلِص المضحي بالذات على نحو أصيل سيخاطبنا بما يبدو كأنه صوت الله نفسه. أما مجرد الشهوة الحيوانية أو العابثة فلن تفعل هكذا. ذلك إنها لابد أن تفسد مدمنها بعشرات الطرق ولكن ليس بهذه الطريقة. ثم إن هذا ما ينبغي أن نتوقعه. فإن محباتنا لا تصرح بادعائها الألوهية قبل أن تصير المحبات شبيهة بالمحبة ذاته. ومحبات الاحتياج لدينا قد تكون بشعة ومتطلبة جدًا, ولكنها لا تنحو لأن تكون آلهة, فهي ليستْ قريبة إلى الله قربًا كافيًا بالمشابهة حتى تسعى إلى ذلك.”