سار بخطى متسعة يحتسب كل غفوة في الدقيقة ليصل في أسرع وقت، أنفاسه المتعبة وطنين الأفكار ترج جسده وتكاد أن تزجه علي أعتاب الهاوية، تحاوطه الظنون هل حقا سيُعقد قرانها اليوم علي غيره، لم تكن قدماه قد وصلت للتو إلى أرض المطار إلا وجاءه هاتفا ينوه له عن عقد قرانها اليوم، يتراجع بالذكريات لبضع أيام مضت حينما كان يجاهد أن يخاطبها عبر مواقع التواصل، ولكن الغريب أن صفحتها الفيسبوكية أُغلقت، وكذلك هاتفها، كل هذا جعله قلق ولكن لم يتسرب الشك إلى قلبه عن مدى حبها وإخلاصها له، وحين وصل إلى المدينة عاقدا العزم ألا عودة، بل ويكتفي بوجودها بين أضلعه، طيلة رحلته كانت ترفرف بروحها في أعماقه، يخرج صورتها من طيات ثيابه يتشممها يعانقها ويقبل كل سنتيمتر في ملامحها، ولكن الآن ماذا حدث وما الذي دفع بها لقبول تلك الزيجة، كيف لم تخبره؟
يسير لاهثا إلى أن دلف داخل تاكسي وأملى عليه العنوان، والغضب يتملكه، يود أن يبكي، يصرخ، راجيا أن يعيدوا إليه حبيبته، يدعو أن يصل قبل عقد القران، قلبه يؤكد أن هناك شيئا خطأ لابد أنها مرغمة، لقد أنتوى السفر وضياع سنوات عمره في مرار الغربة من أجلها، أين كلامها المحلى بالشهد ومذاق العسل! سأنتظرك وإن جاءني الموت يا حبيبي سأنتظرك، يردد بين أذهانه كلماتها، وقف التاكسي أمام بنايتها، ترجل وهو يتباطئ لعله حلم وربما كابوس، الأنوار والزينات معلقة تضوي، تتخلل لأجفان الكفيف، ليراها، الكراسي المتراصة والضجة التي توحي بكل ما قد وصل إليه حقيقي، تبتلع قدماه الدرج يصعد في لمح البصر وبركان غضبه يفوح في المقدمة، وصل إلى أعتاب شقتها، الأبواب على مصراعيها كأبواب قلبه المذبوح، حين دلف أطاح بقدمه طاولة تحمل عشرات من اكواب العصير، وأزاح بيده بوكيهات الزهور، صارخا في الحضور
– أين هي ؟ وبأي حق تتزوج غيري؟ ألم يكن بيننا قراءة فاتحة؟
يجيبه الصمت، جميعهم تحتلهم بلاهة، في حين تصدرهم شخص ما لا يعرفه محنك واللمعة في عينيه وثيابه تشير إلى أنه العريس المذمع، انقض عليه في عراك بأن جذبه من بذلته وألكمه بقبضته لتطيحه هو والماثلين خلفه، تركه يترنح ويوقف دماء فمه النازف، وبقوة أمسك بمقبض غرفتها وأراد أن يدلف ولكن يبدو أن الباب موصد من الداخل، جاهد إلى أن هجم عليه كوحش كاسر، فأطاح به وانفتح، دلف كالمجنون يبحث عنها ولكن ليست بالغرفة طل في كل مكان وحوله الحضور من أهلها هارعين خلفه خوفا من ردود أفعاله، إلى أن وصل إلى الحمام لم يكن مغلق، ما وجده قد أخرس لسانه، أنها هي بثوبها الأبيض، من دفع نصف سنوات عمره من أجلها، مسجاة على الأرض غارقة في دماءها، وبين كفها ورقة، بها كلمات ضئيلة (وإن جاءني الموت سأنتظرك، وإن لم تأتي سأختار الموت)، خر جاثيا يقبلها يضمها إلى صدره وقد لوث ثيابه دمها النازف، فقد مزقت شريانها، لم تخبره بأن أهلها يضغطون ويضغطون كالٱلاف من الأهالي، وكأنها شاه ساقت للذبح، وحان الطرد من المزرعة، وها هم الآن… نادمون.