إسحاق بندري يكتب: حانة السِّت والوجه الآخر للعُمْلَة

إن كانت التعريفات اللُغَوِيِّة والموسوعية عن كلمة “تابو” تُشِيرُ إلى الأفعال والتصرفات المحظورة بِناءً على خلفياتٍ دينيةٍ أو مجتمعيةٍ لاعتقاد أنها تنتهك ما هو مُقَدَّس بما قد ينجم عنه إثارة القلق والمتاعب على نحوٍ يتعارض مع الأعراف الاجتماعية التي من المُنْتَظَر من الجميع الامتثال لها, إلا أنها لا تُقَدِّمُ لنا تفسيرًا وافيًّا عن تأليه وتقديس بعض المجتمعات لمن تفتخر بهم من شخصياتها المرموقة بما يتعارض على خطٍ مستقيمٍ مع فطرتهم الإنسانية المجبولة على كلا الصواب والخطأ, فينتهي الأمر بنحت تماثيل شمعية باردة لأناسٍ كانوا في ذات يومٍ من لحمٍ ودمٍ وتتنازعهم كل أنواع الميول والأهواء. على الأرجح أن المشكلة بأكملها تكمن في كسل العقل الجمعي عن مراجعة ما هو متعارف ومُسْتَقَر عليه بدلًا من شجاعة مواجهة الحقائق الجلية بما قد يُرْبُكُ ثوابته المُفْتَرَضَة ويصيبها في مقتلٍ, ولا يتحلى بفضيلة الاعتراف بالحق وربما ينحو تجاه الإنكار, ولاسيما لو كانت تحكمه قاعدة “اذكروا محاسن موتاكم”!
وعلى هذا النحو أيضًا فكثيرًا ما كانت الدراما التليڨيزيونية ترتكب وتكرر نفس الغلطة عند تقديم معالجاتها للسِيَّرِ الحياتية لنجوم الفكر والفن بتصويرهم في هيئةٍ ملائكيةٍ زائفةٍ, وتتغافل بفجاجةٍ غير مفهومةٍ عن إنسانية هذه الشخصيات بتجريدها من الأخطاء, فيَجِدُ المشاهد نفسه في آخر الأمر أمام مسلسلات وتمثيليات لا هي بالدرامية ولا هي بالوثائقية في أحسن الأحوال.
لا شك أن كل هذه الأفكار لم تغب عن ذهن الأديب الكبير محمد بركة وهو يختار لروايته عنوانًا صادمًا هو “حانة السِّت” الصادرة حديثًا عن دار أقلام عربية, بل ربما تكونُ هي دافعه الأول لتحطيم الصورة النمطية المُخَادِعَة, فالحانة بكل دلالاتها تُعَرِّي البشر من الزيف الكاذب الذي يمارسونه على أنفسهم قبل غيرهم. وهو ينهي الرواية بقوله: “إن الوقائع الواردة في هذه الرواية حول حياة السيدة أم كلثوم صاغها خيال المؤلف استنادًا إلى وقائع مُغَيَّبَةٍ وحقائق منسيةٍ وقد أثبتنا بعض مصادرها هنا”, فالرواية تمزج الحقيقة مع التخييل, إلا إن الجانب الخيالي ينطوي على قدرٍ كبيرٍ من التحليل المُحْكَم والمنطقي في فهم طبيعة كوكب الشرق.

إن كانت أم كلثوم قد شَدَتْ بقصيدة “مصر تتحدثُ عن نفسها” فكم يكون الحال عندما يسيطر طيفها على قلم الكاتب فإذ بكوكب الشرق تتحدث عن نفسها مانحةً إياه هذا الشرف؟ خاتمة المطربين وآخر النساء على امتداد الحكي حائرة بين عوالم متناقضة؛ نشأة ريفية محافظة أنكرتْ عليها أنوثتها, التي تفتقر إليها من الأصل, ورفعة مجيدة تلهب سخط صاحبات الجلالة والعصمة وحاملات لقب السيدة الأولى.
الهاجس الأكبر المسيطر عليها دائمًا هو غياب الجمال الأنثوي بكل ليونته ونعومته, حتى صوتها يقعُ في منطقةٍ متوسطةٍ بين الأصوات الرجالية والنسائية. فمنذ طفولتها يبدو لها الأمر غريبًا أن هذا الجمال الذي حُرِمَتْ منه هي وشقيقتها يتجسد في أخيهما, فضلًا عما يمتاز به الشقيق فقط لمجرد كونه ذّكّرًا. وتكتمل أركان المأساة في الذهنية التي ترى البنات عارًا وهَمًّا ثقيلًا وفضيحةً مُحْتَمَلةَ, وتُلَقَّنُ فيه النساء تأليه الرجال, فتُرْغَمُ حتى بلوغها على ارتداء ثياب الصبيان في إنكارٍ تامٍ لأنوثتها, نهايةً بظهور القطة السورية اللعوب “أسمهان” لتتأكد أنها محسوبة بالخطأ على جنس النساء. ولكن من عجب الأقدار أن يتهافت الرجال على رضاها من أعلى قمة الهرم إلى أدناه, ولدرجةٍ ما اتخذت المسألة شكل التحدي بالنسبة إليها للشعور بقوة سيطرتها على الرجال على الرغم من عوزها للأنوثة, فهي الأنثى التي لا ترحم عشاقها, والتي ستداعب تفاصيل حياتها العاطفية وقصص زواجها المُعْلَنَة أو المحجوبة فضول الجماهير, فضلًا عن الأقاويل الهامسة والشائعات المتناثرة عن ميولها المثلية.

ولكن الإحساس بالقوة والنفوذ لا يتوقف في شخصيتها على هذا الجانب فحسب, إذ له أبعاد أعمق في نفسيتها الهشة. فالأنثى المكروهة قد تحولت إلى الدجاجة التي تبيض ذهبًا, ويتحول معها الأب إلى نَخَّاسٍ وضيعٍ يتكسب من موهبة ابنته ويخشى افتضاح هذا الشأن وانتشار القيل والقال فيتحايل على الأمر بتقديمها في ثياب الصبيان. أمام سحر المال وبريق تيسر الأحوال يلتوي المنطق لدى فلاحٍ مغلوبٍ على أمره, يحمل على كاهليه ميراثًا ثقيلًا من القهر والفقر والانكسار, يتذلل للأكابر في مسكنةٍ لا تتكبد عناء الاختفاء, إرث طافح بالرثاء للذات والشعور بالتدني, تملق الأكابر إلى نفاق السلطة يسري من قاع المجتمع إلى أعلاه, والعبيد لا يصفعون سوي العبيد. يصدق على هذه الحالة ما وصفه الدكتور إيهاب حسن في سيرته الذاتية “الخروج من مصر” عن استخدام المصريين لكلمة “بلدي” للتلميح عن الخشونة والفظاظة والجلافة والتزلف في حين أن معنى الكلمة يشير بشكلٍ ما للوطن وأبنائه. أفرخَ كل ذلك في نفسها غيظًا محتدمًا لم تكن تملك السيطرة عليه, لاكتشافها بعد ذلك ضرورة الظهور كفتاةٍ وليس كصبيٍ في تحدٍ واضحٍ, والسلوك والحديث بحسب ما تمليه قواعد الإتيكيت وليس بالرضوخ والإذعان لفلسفة الفلاح الفصيح. تتناقض في ذهنها دلالات الكلمات حينما يُقام حفل لأول مرةٍ على “شرفها” فلا تدركُ مغزى الكلمة وكنايتها, وهي القادمة من ريفٍ لا يعي من مفهوم الشرف سوى العذرية ودمائها, فتستوعب القاعدة التي لم يتفهمها الأب؛ أن التعامل مع ذوي الحيثية الآن يتطلب أسسًا جديدةً؛ الترحيب من دون نفاقٍ, السعادة من دون تكلفٍ, الندية من دون إساءة الأدب.
إن كانت شقيقتها “سيدة” لا تحمل من الكلمة سوى اسمها, فأم كلثوم ستصبح “سيدة” عن جدارةٍ واستحقاقٍ, ولا تضاهيها إحداهن. ولكن كانت الغيرة تنهش نفسها طوال الوقت, فهي التي وصفت الشيخ سيد درويش بأن إخلاصه الوحيد كان للكوكايين والويسكي, والحرب حامية بالأحرى مع “الأصلع” محمد عبد الوهاب, الوحيد الذي كان له أن ينكرَ عليها تفردها في كل شيءٍ. تتمنى ألحانه وتخشى مقالبه, حتى “لقاء السحاب” بينهما كان بأمر الزمن قبل أمر الزعيم جمال عبد الناصر, بعد أن تأكدَ موسيقار الأجيال أنه لا فائدة من الاحتفاظ بأعظم ألحانه لنفسه بعدما تراجعت مَلَكَاته كمطربٍ, ولكن المعركة اللسانية لا تتوقف بين القطبين اللدودين.
أجل فهي السيدة وليست مجرد ملهمةٍ عابرةٍ كغيرها. فبفضلها أصبح أحمد رامي شاعرًا غزير الإنتاج, بوابة العبور إلى حلمها في شاعرها الأثير, الذي يتحول كل شيءٍ على يديه إلى قصيدة, حتى لو أدى الأمر إلى اندلاع الحرائق في بيته وفي قلب زوجته. هل يجدي أن نستمر في ذكر بقية القائمة من ملحنين وشعراء ورجال قصور؟ ليس هناك داعيًا ولكن الأهم أن القاعدة التي لم تحد عنها: “حين تمنح الأنثى لا شيء ويظن الرجل أنه حصل على كل شيءٍ”, مهارة اكتسبتها على مهلٍ ومارستها بحذقٍ, وسط مكائد ودسائس رخيصة, كانت هي تدير معاركها بذكاءٍ أكبر وتنتهي مناوراتها لصالحها, وتظهر طوال الوقت شامخةً كالهرم مترفعةً عن الصغائر رغم أنها لم تتنازل عنها, مثلها مثل القاهرة, مدينة الندم والخطايا, الحائرة بين عوالم متباينة, ولكنها تفرض نفسها على الجميع, متى تتقدم ومتى تتراجع في دهاءٍ.
لا يبدو من اليسير على من انتقلت من بيتٍ فقيرٍ مكتوب على واجهته “ومن شر حاسدٍ إذا حسد” إلى حاملة نيشان الكمال من الدرجة الثالثة الذي لا تتقلده سوى أميرات الأسرة العَلَوِيِّة, أن تتخلى عن كل عُقَدِها ومصاعب نشأتها, من بدأت بالغناء لأعيان الريف انتهاءً بالملوك والرؤساء أن تتنازل عن حلم مكانتها وتتحدث كما البشر العاديين. حتى السؤال الذي يجول في خاطرها كلما تعرضت لحملةٍ مُغْرِضَةٍ: “لماذا كل هذا الشر؟” لا يبدو منطقيًا وهي تحاول تبرير انتقامها وتسويغ عزة نفسها. من في طفولتها جعلت من حقول القطن في الدلتا أوپرا مفتوحةً حتى أدركت المجد الأكبر بأن يلتف كل العرب حول أجهزة الراديو لسماع حفلاتها. فبعد الذل تَوَّجَها المجد رغم المؤامرات والضغائن. وسط الهشاشة والضعف, تضافرت داخلها النجومية مع الغيرة. وحينما تبلغ صفحات الرواية ختامها سنتجاوز مسألة تأريخ قصة حياة كوكب الشرق وتوثيق أعمالها الفنية لنصل إلى غايةٍ أكبر وأهم وهي فهم النفسية الإنسانية بكل تناقضها وغرابتها ومحنتها وارتباكها, في ذروة قوتها وسفح ضعفها, ليكون ذلك أجمل وأحلى ما فيها, لتظل كوكب الشرق تقول على لسان الكاتب في “حانة السِّت”:
“أنا ستكم وتاج راسكم.
كوكبكم الدري الخالد.
كنت وسأبقى سيدة غنائكم”