بريهان أحمد تكتب : طفرة جينية تصيب البشر.. قراءة في رواية (فئران تبكي في الظلام)
بريهان أحمد & كاتبة وناقدة أدبية

من هنا بدأت الحكاية: كنتُ أتجوّل في ممرّات معرض القاهرة الدولي للكتاب لعام 2025 ميلاديًا، وفي إحدى المرّات التي تسلّل فيها الملل لروحيّ؛ لأنني شخصية تعاني من متلازمة الملل، قادتني قدماي إلى جناح دار (دارك) للنشر والتوزيع. وكان أحد الأصدقاء قد رشّح لي عملًا روائيًا جديدًا صدر حديثًا عن الدار، يحمل عنوان (فئران تبكي في الظلام). وهنا اقترفت تلك العادة الحمقاء التي يقترفها بعض من يُعدّون أنفسهم من المثقفين، وقد كنتُ أظنّني ليس منهم، وقد خاب ظني.
ونسيت إن بعد الظن إثم!، قلت : لم أسمع بالكاتب من قبل. وأعدت الرواية إلى الرفّ،غير أنني شعرت في تلك اللحظة بازدواجية في معاييري؛ إذ كنتُ على يقين بأنّ ثمة كُتّابًا يعيشون في الظلّ، يمتلكون من القدرة على الإبداع بحر لا ينضب، والبناء الدرامي خيالا جامحًا،
ومن الحِسّ ما يُمكّنهم من وصف المشاعر بحميميّة ودفء تتخطى حدود السماء، وتفوق كثيرًا ممّن تسلّطت عليهم الأضواء ووقعوا تحت لافتة ( الروايات الأكثر مبيعًا). توقّفت للحظة، بعدما استدرت بظهري عن الرواية، وطلبت الغفران عَمّا بدر مني من سوء، وبحسّي الفنيّ فأنا في نهاية الأمر روائية وناقدة، شعرتُ كأنّ الرواية تُناديني؛ قائلة:
امنحيني فرصة واحدة للعيش داخلك؛ ربما تذوبين فيّ انغماسًا وعشقًا!
فما كان مني سوى القبول، نظرت إليها بابتسامة تعقد عهد الصداقة بيننا، وعيونٍ يملؤها طلب العفو، ثم التقطتُها، ودسستُها في حقيبتي، وهذّبتُ نفسي عن تلك الشوائب التي اتّسخ بها ضميري.
عنصري الزمان والمكان داخل الرواية من عوامل تميزها:
يُعدُّ (زمن الرواية) من العناصر السردية الجاذبة لاستكمالها؛ إذ اختاره المصري أن يكون في عام 2122، أي في زمنٍ تتقدّم فيه التكنولوجيا وتفنى الأجيال، بمن فيهم أنا بوصفي كاتبة المقال، وكاتب الرواية ذاته. صحيحٌ أن الفكرة ليست جديدة تمامًا في عالم السرد الروائي، غير أن ما يُميّز فكرة عن أخرى يكمن في ماهية الطرح، وعنصر التساؤل، وكيفية توظيف الزمن بطريقة سليمة، تتكئ على التشويق امتدادًا من بداية كل فصل إلى نهايته.
تبدأ الرواية في فندق يقع في حيّ مدينة “القطاعات”، تلك المدينة المتخيّلة التي صاغ الكاتب معمارها ليمزج فيها أفكاره الفلسفية والوجودية. مدينة يتحوّل فيها البشر إلى فئران، لا بفعل الطفرات الجينية وحدها، بل بفعل الآثام والخطايا.
في هذا الفندق، مارس (شارد) الزنا مع سيّدة تخون زوجها معه، وعلى إثر هذه العلاقة تتسارع الأحداث، فتموت السيدة داخل حمّام الفندق مقتولة. وعندما يراها عشيقها جثّة هامدة، يظهر كائن غريب الأطوار يضربه على رأسه ضربةً تُسقطه أرضًا، ليتراءى له شبح ضخم على هيئة فأر، يفرّ هاربًا من نافذة الغرفة. يظنّ (شارد) أنّ ما رآه لم يكن سوى حلم… لكن الحلم هنا لم يكن نهاية، بل بداية لانهيار الحقيقة.
الشخصيات حلقات متصلة:
ومع تتابع الأحداث، لم يكن بإمكان القارئ أن يترك الرواية لحظة واحدة؛ إذ يجد نفسه منساقًا في خُطى البحث عن الحقيقة مع شخصية المحقّق (سامر) وصديقه المعاون (إلياس)، وهما يجوبان شوارع مدينة القطاعات( القطاع الخامس، القطاع الثامن، القطاع السادس،وقطاع وكالة الطب الشرعي والأبحاث البيولوجية….)، تلك المدينة التي تُغطّيها الجرائم المخيفة مع حلول الليل، اطلقت الشرطة على ملفها ( جرائم المطر).
ففي كل ليلة، تُزهق روحٌ جديدة على يد رجلٍ مجهول، قاتل متسلسل، غير أن طريقته في القتل خارجة عن المألوف؛ إذ بعد أن ينحر ضحيّته، يُقسّم جسدها ويشكّله على هيئة فراشة، ثم يعلّقها على الحائط، دون أن يترك خلفه أثرًا أو بصمة أو حتى ما يدلّ على هويته؛ لذا سميت القضية (قاتل الفراشات). وهنا، تتحقّق ما يُعرف بـ ( الجريمة الكاملة) وأنا مؤمنة بأن هناك جرائم تحقق لها هذا الوصف. ومع تزايد التصاق القارئ بشخصية المحقّق (سامر)، تبدأ معانٍ إنسانية كثيفة في التسرّب إليه، ويظهر ذلك بجلاء من خلال المونولوج النفسي العميق الذي يدور في خلد الشخصية، والذي يتحوّل إلى حوار داخلي متواتر.
يجعل القارئ هو الآخر يتورّط في الأسئلة ذاتها:
لماذا يتغيّر البشر؟
هل الحزن والبؤس نابعان من موت الإحساس فينا؟
أم أن الطبيعة ذاتها قد تسلّل إليها فيروسٌ من حماقة الإنسان،
فأخرجها من آدميّتها؟
يسير القارئ جنبًا إلى جنب مع المحقّق مرة أخرى، في رحلة بحث جديدة تندرج تحت ملف (جرائم الاختفاء)- لكن — هذه الجريمة مغايرة تمامًا؛ فالمختفي لم يفرّ إلى مكان مجهول، ولم يتعرّض للاختطاف؛ بل تحوّل أمام أعين زوجته وابنته (ريحان)، إلى فأرٍ ضخم بصورة مفاجئة ومروّعة. كان السبب… شهادة زور أدلى بها ضد زميل له. لم يحتمل ضميره ثقل الظلم، ولم تقوَ روحه ولا ضميره على تلك الفعلة الشنعاء. فهل كان التحوّل عقابًا؟ أم انكشافًا لجوهرٍ مستتر داخل الإنسان؟من ثم يبدأ النص في فتح بوّابات التساؤل الوجودي، حيث لا يقدّم إجابات مباشرة، بل يدفع القارئ — ببراعة ونهم منقطع النظير — إلى فكّ شفراته الفلسفية.
فهل تتحوّل أرواحنا قبل أجسادنا؟
هل يحمل كل فعل خاطئ، بذرة تشوّه خفيّة؟
وهل فينا من الفأر ما يكفي؛ ليخرج إلى السطح حين نخون ذواتنا؟
تحاول شخصية الباحثة البيولوجية (أمل) الإجابة عن تلك التساؤلات المعقّدة التي يطرحها العمل. لا تكلّ ولا تملّ من غرس بذور الأمل في قلوب أضناها الوجع، كأنها تُقاتل من أجل استبقاء إنسانيةٍ تتآكل في صمت. داخل المختبر، تقدّم يد العون لشاب يُدعى (ظافر) تحول في نهاية الأمر إلى فأر في مجاري القطاع، جاء من بلدٍ بعيدٍ حيث كان يُباع السّود في أسواق النخاسة.
قرّر والده، بدافع الرجاء أو الوهم، أن يرسله إلى بلاد القطاعات، ظنًّا منه أنّ البُعد قد يحمل الخير لابنه الوحيد ربما يكون الأمل الذي سينتشلهم من الفقر والجوع، أو على الأقل، النجاة.
غير أنّ (ظافر) ما إن وصل، حتى انخرط في عالم المخدرات، ووقع في فخّ الترويج، وتسبّب — عن غير قصد — في مقتل شاب إثر جرعة زائدة، ذلك الشاب لم يكن سوى ابن القاضي (خلف) شقيق (شارد) الذي كانت تراوده كوابيس وهواجس بأنّ السماء تمطر فئرانًا، وأنّ الأرض تموج تحت قدميه، وتفقد تماسكها كأنها رُخَوة لا تثبت على قاعدة.
وهكذا، تتشابك الشخصيات في حلقاتٍ معقّدة، يتداخل فيها المصير بالذنب، والحلم بالواقع، والمأساة بالفلسفة، ويصل في النهاية خلف وآمال مع سير خطة البحث للظابط سامر للإجابة عن جميع التساؤلات التي تسببت في تلك الطفرة الجينية التي حدثت للمجتمع في مدينة القطاعات الحزينة بعد اصطياد الفأر بشر وتنتهى الرواية داخل قاعة المحكمة؛ ليفهم القارئ أن غياب الضمير آفة الإنسانية الغارقة في العصيان :
” سيساورك القلق إذا استيقظتَ يومًا لتجد أنَّ قاطني مدينتك يختفون دون أثر، ولكن حتمًا ستُصاب بالهلع وسيبدأ فتيل الجنون داخل رأسك بالاشتعال حينما تعلم أن المفقودين باتوا شيئًا آخر، شيئًا مغايرًا للذات الآدمية والهيئة البشرية، شيئًا أقرب إلى الفئران!
في مدينة باهتة تعج بالظواهر الغريبة حيث تنبثق ظلال مخيفة من الجدران وتتجسد المشاعر المظلمة في هيئة أطياف خارقة للطبيعة، تتلاقى مصائر شخوص الرواية؛ ما بين محقق يفتش عن الحقيقة، ورجلٍ مُثقل بندوب خطايا الماضي يسعى للخلاص، ورجل مجذوب يُبصر ما لا يبصره غيره، وقاتل متسلسل يعود للحياة، لتتشابك المصائر في رحلة البحث عن الغايات المختلفة، ويبقى الأمل الوحيد للجميع مُتمثّلًا في شهادة مُنتظرة في قاعة المحكمة، ولكن الشاهد فأر…” .
كما يعتمد الكاتب في هذا العمل على عنصر التضاد بوصفه أداة بنائية أساسية، تتجلّى بوضوح من خلال ثنائية المكان والشخصية، حيث مزج بينهما بمهارة فائقة لرسم مشهد مركّب لحالات الانتحار الجماعي التي تتخلل الرواية.
يتجلّى ذلك عبر شخصية (ساطع)، ومن خلال مجموعته من الأصدقاء، وعلى وجه الخصوص (سارة) التي أحبّها، فشكّلت لديه نقطة التحوّل والدافع نحو قرار الانتحار مع مجموعة الاصدقاء حتى ليتركها وحيدة .يقع هذا الحدث الحاسم في القطاع الخامس، وتحديدًا عند منطقة تُعرف بـ “جسر الحياة”، وهو الاسم الذي يعكس تضادًا لغويًا مع الفعل الذي يقترن به؛ فالانتحار على جسر يحمل اسم “الحياة” يكشف عن مفارقة رمزية قوية تُسلّط الضوء على التناقض بين المعنى المعلن والواقع المرير.
هذا التوتر بين الدال والمدلول، بين الأمل والانهيار، وبين الحب واليأس، يتعمّق أكثر مع تداخل الشخصيات وتقاطعات مصائرهم، ما يخلق تلاحمًا فنيًا ثريًا، تتجسّد من خلاله رمزية الانهيار الوجودي داخل بنية سردية محكمة.
إنّ هذا الاستخدام للتضاد ليس مجرد حيلة جمالية، بل هو اختيار دلالي واعٍ، يُعبّر عن تمزق داخلي يعانيه الجيل الذي تمثله هذه الشخصيات في عالم مدينة القطاعات وما سنشهده في المستقبل من تقدم يسلخنا عن ذواتنا؛ جيلٌ تقوده الأحلام إلى نهايات مأساوية على “جسر الحياة”.
تحليل هذا النص لا يبدو يسيرًا، إذ يتطلّب الغوص في شبكة سرديّة مشبعة بالدلالات، ما يدلّ على براعة الكاتب وتفانيه في سبر أغوار النفس البشرية، والواقع الموبوء بالسؤال والتحوّل.
فلا تظن، عزيزي القارئ، أنك على وشك متابعة حكاية تشبه فيلم “الفأر الطباخ”، الذي خرج من عالم الفئران ليحقّق حلمه. ما أنت مقبل عليه هنا ليس حلمًا طريفًا، بل كابوسًا وجوديًا تتقشّر فيه الذوات الإنسانية قطعةً قطعة، حين تفقد الضمير، ويموت الحب، ويزحف الاكتئاب إلى الروح تحت ستار الليل.
إنها رحلة كئيبة بقدر ما هي مؤلمة، وعميقة بقدر ما هي كاشفة لحقيقة الواقع. لكنها، في المقابل، رحلة ساحرة لكل من امتلك حسًّا يقظًا، ووعيًا حقيقيًا، قادرًا على تتبّع الخيط الفاصل بين الألم والمعنى. اقرأ هذه الرواية ليلًا، إن كنتَ ممن يعانون من متلازمة فرط التفكير القاتل… فربما تجد بين سطورها مرآتك.