فلاش باك

“شهور مصر: أمثال شعبية تنبض بحكمة الأجداد وتروي قصة الأرض عبر الزمان”

“منذ آلاف السنين، كانت الأرض هي أصدق مرآة لشعب مصر، حيث كل شهر يحمل في طياته قصة حياة، وتُحكى من خلالها أمثالنا الشعبية التي تنقل لنا عبق التاريخ وروح الأجداد.”

هل تساءلت يومًا عن سر ارتباطنا العميق بالأرض، وعن كيف أن شهور السنة كانت تتناغم مع حياتنا اليومية وتنعكس في أمثالنا الشعبية؟

إنها ليست مجرد كلمات، بل هي نبضات من قلب التاريخ، الحديث عن الشهور المصرية يمر عبر نهر التاريخ ليعكس لنا صورة حية من حياة الفراعنة، التي امتزجت فيها الطبيعة والفلك مع الفكر الشعبي في مزيج ثقافي فريد.

فالأمثال الشعبية المصرية هي بمثابة مرآة تكشف لنا عن علاقة الإنسان المصري بالزراعة والمواسم، وتوثق كيف كان الفراعنة يديرون شؤونهم الزراعية ويعتنون بها على مدار العام.
“إن الأرض التي تعلمنا من أجدادنا كيف نحبها ونعمل بها، هي نفسها التي تحتفظ بأسرار التاريخ، تحمل بين طياتها قصصًا عن شجاعة الفلاح المصري وإبداعه.”


لقد كانت مصر منذ العصور القديمة مهدًا للزراعة والحصاد، وشهور السنة التي يتنقل فيها المصريون من موسم لآخر كانت محورية في تحديد حياة الفلاحين. هذه الشهور، التي يعود تاريخها إلى أيام الفراعنة، لازالت تُعاش وتورث عبر الأجيال، حيث يترافق كل شهر مع مثل شعبي يحمل في طياته تجارب من الزمن البعيد.

توت – سبتمبر: “توت ري ولا فوت”

يبدأ العام الزراعي في مصر بشهر توت وهو اول شهر في السنه القبطيه ، و يعادل سبتمبر حاليًا، حيث يُقال في مثل مصري قديم: “توت ري ولا فوت”. يشير هذا المثل إلى أهمية الري في هذا الشهر باعتباره الوقت الذي يتهيأ فيه الفلاح للزراعة والري المبكر، وهي سنة الفراعنة التي اعتادوا فيها على البدء بتحضير الأرض لتكون جاهزة للمحاصيل.

بابه – أكتوبر: “زرع بابه غلب النهاية”

ثم يأتي شهر بابه، الذي يُوازي أكتوبر حاليًا، ويتميز بكونه شهر الزراعة. تقول الأمثال المصرية: “زرع بابه غلب النهايه”. هذا يعني أن الزراعة في هذا الشهر كانت من أفضل الزرع الذي يعود بأرباح وفيرة، فالظروف المناخية كانت مثالية لهذا النشاط الزراعي.

هاتور – نوفمبر: “هاتور أبو الذهب المنثور”

شهر هاتور، الذي يُوازي نوفمبر في التقويم الميلادي، هو الشهر الذي يتم فيه بذل الكثير من الجهد الزراعي، وهو الشهر الذي يقال فيه: “هاتور أبو الذهب المنثور”. وهذا يشير إلى أن هذا الشهر يشهد تحضير الأرض للمحاصيل التي تأتي في فصل الشتاء. ومعه أيضًا يقال: “زرع هاتور خلي الأرض تبور” حيث يتوقف النشاط الزراعي في هذا الشهر نظرًا لأن الأرض تكون مخصبة بعد حصاد المحاصيل السابقة.

كيهك – ديسمبر: “كيهك صباحك مساك”

ثم يأتي شهر كيهك، الذي يعادل ديسمبر حاليًا، في موسم البرد القارس، ومعه يأتي مثل معروف بين المصريين: “كيهك صباحك مساك تشيل إيدك من فطورك وتحطها في عشاك”، وهي صورة حية لما كان يعانيه الناس من قصر النهار وبرودة الطقس، مما يجعلهم يعتمدون على دفء الوجبات المعتادة خلال هذا الشهر.

طوبة – يناير: “طوبة تخلي الصبيه كركوبه”

شهر طوبة (يناير)، وهو الشهر الذي يقول فيه المثل: “طوبة تخلي الصبيه كركوبه”. يشير هذا المثل إلى قسوة البرد في هذا الشهر، حيث يتجمد الهواء، وتكتسي الأرض بطبقة من الثلج.

أمشير – فبراير: “بكره يجي أمشير والصغير يحصل الكبير”

أما شهر أمشير (فبراير) فهو شهر بداية النشاط الزراعي وتدفق المحاصيل. المثل يقول: “بكره يجي أمشير والصغير يحصل الكبير”، ويعكس الازدهار والنمو الذي يشهده هذا الشهر في مختلف المحاصيل.

برمهات – مارس: “برمهات روخ الغيط وهات”

في شهر برمهات، الذي يعادل مارس حاليًا، يُقال: “برمهات روخ الغيط وهات”، حيث يكون هذا الشهر موسم حصاد وحصد، ويبدأ الفلاحون في جمع ثمار ما زرعوه على مدار الأشهر الماضية.

برموده – أبريل: “برموده دق بالعموده”

شهر برموده، الذي يعادل أبريل حاليًا، هو شهر حصاد القمح والشعير. ويُقال في مثل مصري: “برموده دق بالعموده”، في إشارة إلى بداية حصاد القمح، الذي يعد من المحاصيل الهامة في تاريخ مصر الزراعي.

بشنس – مايو: “بشنس يكنس الغيط كنس”

ثم يأتي شهر بشنس، الذي يعادل مايو حاليًا، وفيه يُقال: “بشنس يكنس الغيط كنس”، وهو وقت نهاية حصاد المحاصيل الزراعية في مصر، ويجمع الفلاحون محصولهم بشكل متسارع قبل بدء موسم الجفاف.

بؤونه – يونيو: “بؤونه الحجر ينشف الشجر”

أما شهر بؤونة، الذي يعادل يونيو، فيقال فيه: “بؤونه الحجر ينشف الشجر”، حيث يشير المثل إلى الحرارة الشديدة التي تجعل الأرض قاحلة وتجف الشجر. يعتبر هذا الشهر من أصعب شهور السنة للزراعة.

قبل أن ننتقل إلى الشهور التي تلي بؤونه، علينا أن نتوقف لحظة مع هذا الشهر، الذي يعكس بداية فصل الصيف الشديد الحرارة، حيث يكون الجو حارًا جدًا والموارد قليلة. ويمثل مثل “بؤونه الحجر ينشف الشجر” الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، مما يجعل الأرض جافة والشجر يذبل بسبب الحرارة الشديدة.

أبيب – يوليو: “أبيب تسمع للميه دبيب”

بعد بؤونه يأتي شهر أبيب، الذي يعادل يوليو حاليًا، وهو بداية موسم الفيضان الذي كان يعتمد عليه الفلاح المصري بشكل أساسي في الزراعة. في هذا الشهر، يسمع المصريون دبيب المياه وهي تتدفق على الأراضي الزراعية، مما يُعتبر بشارة خير للزراعة. يقول المثل: “أبيب تسمع للميه دبيب”، مشيرًا إلى بداية الفيضان الذي كان يجلب المياه لنهر النيل ليغمر الأراضي الخصبة ويعيد إليها الحياة. كما يقال: “أبيب أبو اللهاليب”، وهو يشير إلى ارتفاع درجات الحرارة مع بداية موسم الفيضان.

مسرى – أغسطس: “مسرى يفك الأرض عسره”

أما الشهر الأخير في التقويم المصري القديم فهو شهر مسرى، الذي يعادل أغسطس في التقويم الميلادي، وهو الشهر الذي يشهد ارتفاعًا في مستوى الفيضان، ويقال فيه: “مسري يفك الأرض عسره”. هذا المثل يعبر عن تأثير الفيضان الذي يجلب المياه الغزيرة ويغسل الأرض من عسرها، ليصبح الفلاحون قادرين على تحضير الأراضي للزراعة الجديدة.

كان الفيضان بالنسبة للمصريين أساسًا لخصوبة الأرض، وكانوا يعتمدون عليه بشكل كبير في الزراعة.

توارث هذه الشهور وأمثالها

إن هذه الشهور والأمثال الشعبية التي تترافق معها قد نقلها أجدادنا عبر الأجيال، وكانت جزءًا من حياتهم اليومية، إذ كانوا يرتبطون ارتباطًا وثيقًا بكل موسم وحركة الأرض. وكان كل شهر له أهمية خاصة، سواء كان مخصصًا للزراعة أو للحصاد أو للتحضير لموسم جديد. ومن خلال هذه الأمثال التي يتناقلها الناس، نلمس كيف أن الفلاح المصري كان يعيش في تناغم مع الطبيعة، يعرف كيف يستغل كل فصل بما يتناسب مع متطلباته الزراعية.

أهمية هذه الشهور في تراثنا الثقافي

هذه الشهور ليست مجرد تواريخ في تقويم زمني، بل هي فصول من حياة المصريين عبر العصور. كانت تمثل دورة الحياة اليومية والفصول الزراعية التي لا تزال تؤثر في فكرنا الشعبي حتى يومنا هذا. فكل مثل يحمل في طياته حكمة تعلمناها من الأجداد، وكل موسم يرتبط بعمل متواصل وجهد لا ينتهي.

لقد أضاف الفراعنة العديد من المفاهيم الزراعية، التي تم توريثها عبر الأجيال، وأصبحت جزءًا من تراثنا الثقافي. الشهور المصرية التي استمدها أجدادنا من تفاعلاتهم مع الطبيعة، استمرت لتكون مرشدًا لنا في كيفية العيش والتأقلم مع التغيرات المناخية والزراعية.

إن تلك الشهور والأمثال هي رابط حي بيننا وبين حضارتنا القديمة، وهي تشكل جزءًا أساسيًا من هويتنا المصرية التي نعتز بها.

أهمية هذه الشهور في الثقافة المصرية

تُعد هذه الشهور بمثابة تراث حي من الزمن القديم، حيث ترك الفراعنة أثرهم العظيم في كيفية إدارة شؤون الزراعة. وعلى مدار الأجيال، ورثنا هذه الأشهر ومعها أمثالنا الشعبية، مما جعلها جزءًا من حياتنا اليومية ومن طقوسنا الثقافية.

لقد شكلت هذه الشهور والأمثال جزءًا من ثقافتنا المعيشية، حيث لا تزال تلك الأمثال تؤثر في حياتنا، وتعلمنا دروسًا من التجربة، وتحفزنا على التكيف مع التغيرات البيئية والمناخية. إنها ليست مجرد كلمات، بل هي نبضات من قلب التاريخ.

إننا عندما نسترجع هذه الأمثال، نرى كيف كانت الأرض قادرة على أن تكون مصدر رزق وموئلاً للحياة، نعيش معها دورة من الزمن، تتجدد في كل عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى