دار إشراقة تصدر “رسائل موسيقية فالس إيدا سيمفونية الكلمات ” للكاتب والمترجم إسحاق بندري
واشنطن- تاميران محمود

صدرت حديثا من دار إشراقة رسائل فالس إيدا بقلم الكاتب والمترجم إسحاق بندري وهي مجموعة من الرسائل يكتبها الراسل إلى حبيبته إيدا وكلها رسائل يحكي فيها لحبيبته عن الموسيقى والفن والكتب وأوجه مختلفة للإنسان. يقول الكاتب في المفتتح ” لا تستعصى الموسيقى على من يتلقاها بحب، عندما ينتبه إليها عقل المستمع بالتوازي مع شعوره بها.
القراءة بها كفيلة بكشف ما يدور غامضا وساعتها ستغدو الرحلة مع النغمات والألحان والإيقاعات هي البهجة الصافية”. مفتتح بسيط مررت فوقه بهدوء ثم عدت إليه بعد الرسالة الثانية لأقرأه بحرص! تبدأ الرسائل بوضع القارئ مباشرة في قلب نوستاليجا الخطابات في زمن سريع تغلفه المادة والأفكار الجاهزة خطابات مكتوبة دون انتظار رد حتى أن صاحب الرسائل يخبر حبيبته انه يكتب إليها الخطابات عندما تطلب منه ذلك فيستحضر ذاكرة خاصة تجمعهما معا ليست حقيقية، يستعيرا ذاكرة لعالم قديم لم يعيشوه بالفعل.
ذاكرة الجنود على الجبهة أو المبعوثين في دراساتهم خلف المحيط أو ذاكرة المغترب في بلاد النفط في أواخر الثمانينات، ولكن ببساطة يجرنا الكاتب إلى عوالمه مؤكدا أن الذاكرة التي اصطنعها بكتابة خطاب في عصر الذكاء الاصطناعي هو فعل حميمي ليحكي فيه عن الموسيقى والكتب والناس وما افتقدناه تحت وطأة السرعة التي نعبر بها أيامنا دون حرص أن ما نهدره هو عمرنا الحقيقي الذي نتجاوز فيه عن مشاعرنا الحقيقية وتقلبات أمزجتنا.
ونحن لا نعرف من الرسائل شخصية المرسل الذي يلعب دور شهرزاد في كل رسالة يفيض بالحكايات ومشاركة الأفكار إلى إيدا البطلة التي لا نعرف خلفياتها أو أفكارها فهي مشارك رئيسي صامت لا يتدخل في تطور الأحداث سوى أنها منصتة باهتمام إلى المرسل الذكي الذي يجرنا إلى عالمه باشارات ذكية ولغة قوية وبسيطة تنقل للقاريء خبرة سماع اللحن الموسيقي المصاحب لكل رسالة. وتبدأ رحلة كاتب الرسائل في ارسال ثلاثين رسالة إلى إيدا تجربة غريبة ومختلفة أن تقرأ رسائل ليست نمطيه رسائل تسمعها، وربما يكون هذا هو رهان الكاتب من وراء هذا العمل فيبدأ في الحديث عن أفلام العصر الذهبي لهوليود بعد الحرب العالمية الثانية متخيرا لأغان مشهورة وموسيقى مميزة يسرد الراوي لحبيبته أحداث الفيلم وكيف استطاعت الموسيقى أن تدعم شعور البطل والبطلة كيف لعب المسرح دورا مهما في دعم خطوات سينما هوليود يسترسل أو يقتضب في وصف احداث الأفلام إلا أن ايدا صاحبة الخطابات تلعب دورا هاما حين تقرأ هذه الخطابات التي تحمل فيض من النغمات والألحان والإيقاعات فهي منصتة إلى معجزة الموسيقى والحقيقة أن بعض المفكرين يحيلون الموسيقى كفعل بشري إلى حالة الوحي أقوى من غيرها من الفنون.
فقد حملت الرسائل في مضمونها وجبة موسيقية قوية ومختلفة ودسمة ستدفع القاريء إلى تذكر الموسيقى التي سيكتشف انها موجودة في مكان ما داخل ذاكرتك كقاريء تستعيد هذا السحر وأنت تجلس كقاريء متلصصا على رسائل إيدا التي لا تعرف كيف وصلت إليك لتسحبك إلى عالم الموسيقى الساحرة. بعد الرسالة الثانية عدت إلى المفتتح أقرأه مرة أخرى إن هذه الرسائل تحمل معجزة الموسيقى إليك مبينة الفرق بين النغمات والألحان والإيقاعات وكيف تندمج فتصير مقطوعة حقيقية تأسر عواطفك حين تسمعها دون مجهود منك وبعدها عدت إلى الرسائل التي يختمها المرسل بكلمة مع محبتي وإخلاصي دون توقيع في كل مرة.
فنجد أن الكاتب اختار أن يحضر متخفيا وراء الخطابات إلى إيدا حاملا لها الحب في شكل مقطوعات موسيقية ساحرة متخيلا نفسه مرافقة لأفلام أوديري هيبورن وكاري جرانت متحدثا إلى عمالقة الإخراج في هوليوود أو مقتبسا جزءا من الأفلام التي يحبها متوجها بها الى حبيبته واصفا لها شعوره على ألسنة أبطال آخرين رسائل تحمل مشاعر حقيقة ومركبة تدفعك للاستمرار في قراءتها متسائلا متى ترد إيدا؟! وكما استوقفتني الرسالة الثانية استوقفتني الرسالة الرابعة التي يكتب فيها المرسل لحبيبته المحظوظة عن فعل الكتابة حين تبقى كتذكار فالخطابات ستظل لها شكل الذكرى أكثر من أي شكل آخر فكل الكلمات فيها تكون ذكرى بين طرفين وكيف يتذكر حين يكتب لها أغنية الحياة وردية الأيقونية بكل كلماتها الفرنسية العذبة حين تخرج من فم ايديث بياف الأيقونة غير المكررة باللحن الفرنسي المميز وهو ذات اللحن الذي ستسمعه بمجرد أن تبدأ الرسالة الرابعة وأنت تجلس مكان صاحبة الخطابات إيدا تنصت مثلها تماما.
ويفسر الكاتب أمورا كثيرة عن مصطلح الحياة وردية، ولكن ليس بالضرورة أن تكون الحياة مزهرة ووردية حقيقة، ولكن اللطف الذي تجلبه الموسيقى إليك مع الرسالة الرابعة كافية أن تشعر بأن الحياة وردية تتعاقب الرسائل بعد ذلك فنستكشف من ورائها تداخلا ثقافيا واضحا ينبع من خبرة واطلاع واسع للكاتب الذي يعرض لحبيبته مشاعره من خلال مقطوعات موسيقية شهيرة لرواد الموسيقى الكلاسيكية شارحا لها ما وراء النوتة الموسيقية مستعرضا معها تداخلا فنيا واقعيا بين الكتابة التي يخبرها فيه عن حبه مع باقي الفنون العالمية من الموسيقى والرسم والمسرح وفن الأوبرا وطبعا السينما متنقلا برشاقة بين حطاباته وخطابات سابقة منشورة لعدد كبير من الأدباء والفنانين والموسيقيين. لن يشعر القارئ بالملل أبدا من هذه الرسائل، بل سيدفعه قراءة هذا الكتاب إلى العودة لمحركات البحث لسماع الأغنية أو المقطوعة الموسيقية أو الموسيقى التصويرة التي أشار لها البطل إلى إيدا.
وكما تعبر مع الرسائل موسيقى شتراوس وباخ وموسيقى شهرزاد الخالدة يجرك البطل إلى رسالة من داخل الأزقة والحارات التي خرج ولعب فيها بطل فيلم الحريف مع موسيقى الفنان هاني شنودة واصفا مقاطع موسيقية كاملة صاحبت رحلة المشاهد والقاريء وإيدا نفسها مع فارس بطل الفيلم عادل امام هذه المرة ستخلق بداخلك الرسالة شيئا مختلفا هل استطعت أن تهضم الوجبة الفنية؟ هذه الرسالة تحديدا تشرح التداخل الشديد بين الفنون والتي أحيانا لا يستطيع المتلقي أن يفهمها كاملة فتأتي رسالة بسيطة مثل الرسالة رقم ستة وعشرون إلى إيدا لتشرح ببساطة كيف يتم هذا التداخل وما أهميته وضرورته لتكامل الفنون القادرة على خلق حالة من الهدوء والراحة لدى المتلقي من خلال ذكرياته الحقيقة والواقعية للعبة كرة مع أقرانه لا بساطة أكثر من ذلك، ولكنها تحمل كما من التعقيد كبيرا وراء كل هذا.
هذه الرسالة تعرض التشابك والتداخل وتفككه ثم تعيدك وانت مكانك الي اكتشاف حقيقة كلمة الشوارع حواديت. وقبل أن تخرج من تجربة هاني شنودة صاحب المصريين تغرقك الرسالة السابعة والعشرين باعتراف البطل الى ايدا التي يبدأ لها كل الخطابات بكلمة عزيزتي إيدا إلا أنه يحيلها هنا الى اعترافه الضمني بالحب عبر موسيقى عمار الشريعي الخالدة أكتر من روحي بحبك في واحدة من ملحماته الخالدة مع أسامة أنور عكاشة لمسلسل الراية البيضا التي لا يمكن تجاوزها أبدا.
يصف الكاتب إلى إيدا أهمية الفن في رسالته ويحلل لها أركان قضية مفيد أبو الغار مستحضرا في خلفية رسالته موسيقى عمار الشريعي واعتراف واضح بالحب الذي يتجاوز الروح دون تصريح ثم يجرها إلى موسيقى فيلم خرج ولم يعد حيث إن الجنة قريبة ولا يمكن دخولها وكذلك يصعب تجاوز اقترابك منها ويختم رسائله بموسيقى فيلم الكيت كات والذي ينسجم فيها الأصناف الفنية في تمازج حقيقي فالعمل في أصله عملا أدبيا نقل إلى شاشة السينما تلعب فيه الموسيقى دورا محوريا للتعليق على الأحداث والأبطال وعلاقاتهم المتشابكة فيشرح لها أن الموسيقى اعتمدت على المزج بين قالب موسيقى الشارع باسكاليا الأسباني والذي مزجه الموسيقي راجح داوود مع العود الشرقي ليمثل كافة المواقف التي يقوم بها الأبطال في حياتهم المتخيلة داخل الإطار الدرامي لفيلم الكيت كات.
يختتم الكاتب رسائله بهذه الرسالة التي حملت رائحة الوطن والذكريات الحقيقة مقتبسا جملة مهمة وهي أن “نشأ الفن مع الإنسان منذ بدأت الحياة الإنسانية” هذه الجملة التي تحيلك مرة أخيرة إلى المفتتح الذي يكشف لك بوضوح طاقة الفن والسعادة التي ستسكن القارئ بعد الانتهاء من هذه الرسائل التي تقدم جرعة فنية شديدة التمازج والانصهار يسهل فصلها وتستشعر وحدتها بشكل كل متكامل.
