الفرما: حكايات العائلة المقدسة وإرث تاريخي عريق

تقف مدينة “الفرما” كشاهدٍ حي على تعاقب الحضارات، منذ أن كانت تُعرف باسم “بيلوز”، حيث استقبلت العائلة المقدسة خلال رحلتها من فلسطين إلى مصر، هربًا من بطش الملك “هيرودس”.
وعلى مدار ثلاث سنوات وست شهور، قطعت السيدة العذراء مريم والسيد المسيح له المجد، الطفل “يسوع” ومعهما القديس يوسف النجار نحو 3500 كيلومتر، وكانت “بيلوز” أول موطئ قدم لهم في مصر. هناك، وجدوا ملاذهم في مغارة تحولت إلى معلم أثري بارز، لا يزال يجذب الزوار الباحثين عن عبق التاريخ.
تحولات تاريخية: من “بيلوز” إلى “الفرما”
بعد استقرار العائلة المقدسة، شهدت المدينة تحولات كبرى، بدءًا من الغزو الروماني الذي جعلها جزءًا من مقاطعة “يهودا” الرومانية، وصولًا إلى اكتشاف ثرواتها الطبيعية، حيث زارها الإمبراطوران “فيسباسيان” و”تيتوس” عام 70 ميلادية، بحثًا عن الكنوز المدفونة. ولم يمضِ وقت طويل حتى أصبحت المدينة مركزًا بحريًا واستراتيجيًا للإمبراطورية، عُرفت بصناعة السفن التي خدمت الأساطيل الرومانية والنبطية.
إرث ديني وروحاني فريد
كانت “الفرما” موطنًا لإحدى أقدم إيبارشيات الكرازة المرقسية، حيث ضمّت كنائس وأديرة عدة، من أبرزها دير “السيدة العذراء مريم”، الذي احتضن القديس “إيزيدور البيلوزي” في القرن الرابع الميلادي. هذا الراهب والعالم اللاهوتي ترك أثرًا خالدًا في تاريخ المسيحية، إذ قاد الدير الذي ضم أكثر من خمسة آلاف راهب اختاروا حياة التأمل والتعبد.
لم تكن “الفرما” مجرد مركز ديني، بل كانت موطنًا لعدد من الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنًا لعقيدتهم، ومنهم القديس “إبيماشوس”، الذي قُتل بأمر من الإمبراطور “ديسيوس” عام 251م، وكذلك الشهيد “إبيماخوس”، الذي واجه المصير ذاته في عهد الإمبراطور “داكيوس”.
معالم أثرية تروي تاريخًا مجيدًا
تضم المدينة مجموعة من الكنائس الفريدة التي تعكس تطور العمارة المسيحية، أبرزها “الكنيسة البازيليكية الشرقية”، التي تعود للقرن الخامس الميلادي، وتتميز بتصميمها الفخم وزخارفها المعمارية المذهلة. كذلك، تحتضن المدينة كنيسة المعمودية بدير السيدة العذراء، المبنية على شكل صليب متساوي الأضلاع، حيث تزينها الفسيفساء والرخام.
ولم يقتصر تراث “الفرما” على الكنائس فحسب، بل ضمت أيضًا المسرح الروماني الذي يعود للقرنين الثالث والرابع الميلادي، وهو من أكثر المسارح اكتمالًا في مصر، متفوقًا على نظيره في الإسكندرية.
“تل المخزن”.. كنز الكنائس والمقدسات
في المنطقة المعروفة بـ”تل المخزن”، تتوزع الكنائس الثلاث الشرقية، التي شكّلت نقطة التقاء للمسيحيين القادمين من القدس في طريقهم إلى جبل سيناء. من بين هذه الكنائس، تبرز كنيسة “القديس أبو ماخوس الفرمي”، التي ظلت شامخة حتى العصور الوسطى، كما وصفها المؤرخ “المقريزي” عام 1441م، مؤكدًا على ارتباطها بمرور العائلة المقدسة.
إرث خالد رغم تقلبات الزمن
رغم الحروب والغزوات، بقيت “الفرما” رمزًا للروحانية والعمق التاريخي، إذ ظل دير القديس “إيسيذورس الفرمي” عامرًا حتى عام 1118م. واليوم، تمثل المدينة موقعًا أثريًا غنيًا يروي صفحات مشرقة من التاريخ، شاهدًا على مزيج فريد من الحضارات، بدءًا من العائلة المقدسة وحتى الإمبراطورية الرومانية، وما تلاها من عصور.
تظل “الفرما” واحدة من أكثر المواقع التاريخية والدينية أهمية في مصر، حيث يمتزج فيها التاريخ بالإيمان، وتحكي آثارها قصصًا لا تزال تُروى للأجيال. فكل حجر في أرضها يسرد فصلًا من رحلة طويلة، بدأت بقدوم العائلة المقدسة، ولم تنتهِ رغم مرور القرون.



