قاطرة الكلمة

إسحاق بندري يكتب.. دفتر يوميات اللاجئين في مجموعة «ذيل الحصان»

في لوحة غلاف المجموعة القصصية ما يشي بمحتوى الكتاب إن تأمله القارئ بروية. طابور من المشاة تتكون أجسادهم من قطع حجارة متراصة ولكنها مفككة في الوقت نفسه، يحملون أطفالهم ومتاعهم برؤوس محنية من الذل والمهانة، ومن تجاسر على رفع رأسه إنما يداريها بذراعه. لتتحير قليلاً؛ هل أحالتهم ظروف الحرب والتهجير واللجوء إلى مخلوقات قاسية كالصخر لتقدر على المقاومة والتحمل، أم شابهوا الحجر في انعدام الإحساس؟ يظهرون في حالة صخرية صلبة ولكنها مفككة وقابلة للتشظي والانهيار في لحظات الصدام. حتى القمر الذي يزين المشهد القاتم بخلفيته السوداء، يتشكل هو أيضًا من صخرة مستديرة رمادية ولا تدري أيبعث على الأمل المرجو أم اليأس من قدوم الفجر؟

المجموعة القصصية تتكون من أربع وعشرين قصة قصيرة، وتضم عشرات من النماذج البشرية التي تتضام في مشهد من قطع الفسيفساء المتجاورة لتشكل لوحة كبيرة. وكأن الأديب السوري الأصيل المقيم في النرويج نافذ سمَّان يدون لنا في دفتره يوميات اللاجئين السوريين. ما بين الوطن وبلاد اللجوء والمهجر حيث تتقاطع الخيوط وتتشابك زمانيًا ومكانيًا، ويلتقي الشرق والغرب في مشاهد متصادمة ومتنافرة، في حوار لا يصل إلى نتيجة أو تفهم لوجهة النظر المغايرة، حتى المفاهيم الواضحة تبدو في حالة من اللبس والارتباك وتحتاج إلى إعادة التعريف بها من جديد إذ استعصى على الأذهان فهمها الصحيح. والأخطر أن تأثير الحرب المدمرة بين الفصائل المتقاتلة يطبع أثره على كل من خاضها واكتوى بنارها، فيبدو المشهد النهائي فاضحًا لكل ما في النفوس البشرية من مثالب مخزية وبقية من المشاعر الصادقة التي تحاول أن تنجو بما تبقى لديها من حس إنساني، ويتساوى الاثنان في الاحتياج لإعادة التأهيل والعلاج النفسي.

 التناقض الجلي يتجسد في اختيار أسماء الشخصيات، كأن الكاتب يشدد على ما في نفوسهم من تباين صارخ بين ما تعنيه أسماؤهم وما هم عليه فعليًا وواقعيًا. “جابر” الذي لا يجد جبرًا لخاطره، يصل إلى بلد اللجوء وقد تشبع ذهنه المحدود بقصة فيلم النمر الأسود، منتظرًا أن تتسابق الأوروپيات عليه خاطبات وده، فارضات إياه على أسرهن، ليتقاسم ثرواتهن في نهاية المطاف. إلا إن ذهنه المحدود تعصف به حقيقة مناقضة تمامًا لكل ما تعرض له من كذب وتدليس الأفلام التي غسلت عقله بأن العرب هم الأكثر وسامة وذكاء وجاذبية، فهن في حالة خوف من ذوي الأصول العربية، وتعتريهن مشاعر الخوف والترقب وليس الاندفاع الشبقي نحو أمثاله، فيتساءل إن كان هذا هو حال كل العرب أم أنه الرجل الخطأ في المكان الخطأ. وهناك أيضًا “أميني” وهو غشاش يغير اسمه الأصلي (أمين) ليدَّعي مع صديقه “عبدو” أنهما مثليان هاربان من بطش التقاليد الشرقية إلى تسامح الغرب، ويكاد يفضح نفسه وقصته الزائفة بسبب عشقه لمعلمة اللغة أنچليكا.

 “فارس” صاحب الشخصية المستكينة الذي يدهشه السؤال عن تصوراته المستقبلية وهو من عاش عمره كله وحكومة بلده هي التي تحدد له مستقبله وأحلامه وتطلعاته حتى تعطب خلايا التخيل والتصور في ذهنه بالجملة ولا يصبح لديه من الفروسية شيئًا إلا الهروب واللجوء. والأستاذ “شريف” هو مثال للخسة والدناءة وليس سوى أحد تجار الدين ممن يستغلون حاجات البسطاء باسم الدين، ومثله من أقاموا من أنفسهم محتسبين وأوصياء على سلوكيات غيرهم في المهجر باسم الغيرة والحفاظ على سمعة العرب مثل “أبو الخير” المتسلق الوصولي، “وبلال” الذي يمارس التنمر الالكتروني وهو في نفس الوقت متحرش بالإناث. “وليد” الذي يشهد موت صديقه متجمدًا في غابات صربيا أثناء رحلات الهروب، تظل تدوي في ذهنه عبارة صديقه الراحل: «إنها أصعب مرحلة. ولكن الولادة من جديد لا تأتي، وأصعب مرحلة يتلوها ما هو أكثر صعوبة، حتى يأتي موت صديقه من التجمد ثم فراره تاركًا جثمان صديقه, ليخيم عليه الشعور بالذنب كلما خطرت له ذكرى صديقه.»

 أما “صادق” فهو سكير غارق في كذبة كبرى عن جلال منزلته وقوة شخصيته واعتقاد من حوله أنه دكتور لمجرد أن صديقه “شكري” يناديه بذلك اللقب، في حين أن زوجته تخونه مع شكري، وهو يعرف ذلك ويحاول خداع نفسه بأنه فضحهما، ولكنه يحتاج إلى صديقه المخادع كي ما تستمر الكذبة في الدوران. “حمودة” الحائر بين أبيه في الوطن والذي يطالبه بإرسال أوراق حفيده الثبوتية كي ما ينقل له ملكية إرث العائلة معتقدًا أن الحفيد يحمل اسمه كما جرت العادة، وبين زوجته التي أطلقت على ابنهما اسمًا غربيًا كي ما تؤمن له مستقبلاً جيدًا لا يتعرض فيه لأي تضييق بسبب الأسماء العربية، فلا يستطيع التغلب على زوجته التي تفرض عليه قبول الأمر الواقع أو الانفصال والعودة إلى أهله الذين تهمهم التقاليد البالية. ومن يقتل زوجته لاعتقاده أن المهجر قد غسل عقلها بأفكار الحريات والمساواة ويخشى استئثارها براتب المعونة الاجتماعية وهي في نظره ليست سوى خادمة له. ويدعي أنه مختل عقليًا لينعم بالعلاج والسجن المريح في الغربة حيث لا تطارده عقوبة الإعدام. ومن اعتادت الاغتصاب على يد زوجها ثم الجنود النظاميين ثم أفراد الميليشيات ثم المهربين فكانت ترضى وتقبل مثل غيرها حتى أنها لم تعد تعرف الفارق بين مفهومي الزواج والاغتصاب لأن المسحوقين ليسوا في النهاية سوى أرقام وهذه التعريفات عن الاختلاف بين التراضي والقهر لا تشملهم. 

ونموذج “عناد” التي تذوق المر من قهر زوجها الذي حرمه إخوته من الميراث بسبب تدليل أبيهم له، ولا يجد متنفسًا له سوى في اغتصاب “عناد” وضرب الأطفال، ليكتشف أنه لا يجوز له ذلك في المهجر. ولكن شخصية عناد القوية وقدرتها على الاندماج على عكس زوجها، وتعلمها للغة ثم التمريض تحققان لها مستقبلاً طيبًا يخفف عنها ما قاسته في ماضيها الأليم. ولا يكاد يضارع ألمها إلا بطل قصة هروب الذي شهد مقتل زوجته الحانية في بلد لا يرحم ويعتريه الندم أنه لم يهاجر هربًا من طيفها الذي تذكره به أغراضها ويفضحه نشيج بكائه.

في قصة حوار مع صديقتي الملحدة لا يبدو الأمر كحوار أو حتى تعارض بين الإيمان والإلحاد إلا في جملة تعلن فيها تلك الصديقة عدم اكتراثها بمسألة اعتناق أي دين رغم احترامها للعقائد، ولكن الحوار في مجمله يسير على خطين لا يلتقيان بين وجهتي نظر لكل منهما وجاهتها، إلا أن صاحب كل وجهة نظر يتشبث بموقف دفاعي يستحيل معه التفاهم وتتحول الكلمات إلى الإعادة بطريقة مبتذلة ليفقد الحوار معناه. فهي ترى أن الأمر لدى المهاجرين واللاجئين هو تمسك بنسق قيمي يتنافى مع روح العصر نكاية في الغرب ورفضًا للاندماج وفي النهاية إعلان الحرب على الغرب بسبب نصوص مختلف على تأويلها ويستغلها كل طرف لخدمة مصالحه ولكنها تشن الحرب على الغرب في عقر داره. في حين أن الصديق ينظر للأمر من زاوية التحالفات بين الحكومات الغربية البراجماتية مع الدكتاتوريات الشرقية، فالمسألة تحكمها دوافع سياسية مما يشكل فارقًا عن الصراع الحضاري والذي يمثل حربًا ناعمة طويلة الأمد.  

على ما تقدمه مجموعة “ذيل الحصان” من حكي مشوق للكثير من النماذج البشرية المتنوعة في ثرائها الإنساني واختلافها بل وتنافرها الفكري والقيمي، إلا أن القارئ لا يتوقف عن تأمل صخب المشاهد التي يعمها قصف الطائرات والمدافع، وتنازع الفصائل المتناحرة على أنقاض البلاد، فينتهي المسحوقون والمهمشون إلى مصير أشد بؤسًا ويمارسون القهر على من هم أضعف منهم، أقصى طموحهم الفرار واللجوء، ومن رحمه الموت من قصف المدافع والتضور جوعًا فربما لن يرحمه من قسوة الأمواج أو الأحراش في رحلة الفرار واللجوء.

يقف القارئ أمام عبارة كاشفة؛ “مُتْعَبٌ أنا يا صغاري ومُنْهَكٌ”، وكأنها تلخص كل تفاصيل اللوحة ذات المشاهد متعددة الأصوات. بين من أذلتهم الحرب وهصرت قلوبهم، وبين من بدلت حياة المهجر المرفهة قناعاتهم فبدوا كمن اختل صوابه وطار عقله. بين من يتمسك بمفاهيم بالية عن الشرف والشهامة في مقابل احترام قيمة الحياة الإنسانية عامةً. بين من فقد إنسانيته وإحساسه في مقابل من ظل معذبًا من نقاء روحه ورقة قلبه. بعض المواقف التي تبدو هزلية على خلفية مشهد حالك تناقضها مواقف أشد فظاعة وفجيعة.

لعل تجربة الحرب وما يتبعها من تهجير ولجوء هي الأسوأ على الإطلاق، فهي تميط اللثام عن كل ما في القلوب من خبايا ورغبات وتطلعات وخطايا وأخطاء، ربما لا يفهم من مرَّ بها مدى غرابتها للتو واللحظة، ولكن ربما مع مرور الوقت يستوعب الإنسان كل ما اختبره من دروس عسيرة الفهم، ولو بعد حين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى