إسحاق بندري يكتب.. «بحر البلدة الصغيرة» ثنائية الاغتراب والفقد
ليس من الجديد أن يتناولَ الأدب معالجة ما تنطوي عليه فكرة الرحيل من معانٍ عميقة وآثار دائمة في النفس الإنسانية، سواء الانتقال من مكانٍ إلى آخر أو مغادرة هذا العالم. هذا الشعور بالاغتراب الذي يجيء في بعض الأحيان رغمًا عن المرء، دون حتى أن يخطر بباله ولكنه لا يملك رفاهية التملص منه ويضطر إلى مواجهته وربما تقبله والتعايش معه.
لكن طزاجة فكرة هذا العمل قد تَشَّكَلَت من تضافر عدة عوامل؛ صياغتها كرسالة طويلة، حكي أحداثها من منظور طفل على أعتاب المراهقة في مرحلة فارقة من حياته، وبالحضور الطاغي لبطل الرواية الحقيقي وهو البحر.
وُلِدَ الكاتب الهندي أنيس سالم في عام 1970 في ضاحية ڨاركالا الساحلية بولاية كيرالا الهندية، وعبر سنوات مسيرته الأدبية أثبتَ وجوده بالوصول إلى قاعدة واسعة من القراء لأنه يكتب بالإنجليزية كما فازَت رواياته بالعديد من الجوائز.
صدرَت رواية «بحر البلدة الصغيرة» في عام 2017 وهي الرواية الخامسة في كتابات أنيس سالم، وقد فازَت بجائزة أفضل رواية مكتوبة بالإنجليزية في مهرجان أتا جالاتا للكتاب الأدبي بمدينة بنجالور لعام 2017، ووصلَت إلى القائمة القصيرة للجائزة الهندوكية لنفس العام، فضلًا عن فوز أعماله الأخرى بالجوائز أو وصولها إلى القوائم الطويلة أو القصيرة لها.
كما أوضحنا فهذه الرواية في مجملها عبارة عن رسالة طويلة يرسلها الراوي إلى أحد الوكلاء الأدبيين في لندن، لا يذكر الراوي اسمه أو اسم أبيه أومه أو جدته ولكنه يشير إليهم بالمرادفات الهندية التي يشرحها لقراء الإنجليزية في المسرد، والتي أبقينا عليها في الترجمة.
في هذه الرسالة الطويلة يسرد الراوي الأحداث من وجهة نظره حينما كان في الثالثة عشر من عمره، يحكي قصة عائلية يغلبُ عليها الرحيل والموت والاغتراب، تتلاقى مصائر الشخصيات عند بحر غير محدد تُطلُّ عليه بلدة صغيرة غير محددة.
بعد إصابة الأب بالسرطان، وهو كاتب هندي يكتب بالإنجليزية وقد حققَّ نجاحًا متوسطًا في مجال الأدب، وعندما بدأت قواه تخور وشارَفَت أيامه على نهايتها، تتبدل حياة الأسرة الصغيرة رأسًا على عقب.
إذ يقررُ الأب العودة إلى مسقط رأسه في بلدته الصغيرة عديمة الشأن التي غادرها في مقتبل أيامه سعيًّا لأحلام التحقق والشهرة لكي يحظى بنعي يليق به عندما يفارق الحياة اعترافًا بمكانته. والآن ينبغي على الأسرة الرحيل عن مدينة كبيرة صاخبة، أضخم حلم يترقبه جميع سكانها بمن فيهم تلك الأسرة الصغيرة هو تشغيل خط المترو الحديث العصري الذي تسير أعمال إنشائه في بطء ملحوظ لدرجة أن الجميع يتمنون أن يشهدوا انطلاقه قبل رحيلهم!
الغريب في أمنية الأب الأخيرة أن عودته لبلدته الصغيرة لا تنبع إلا من رغبته العميقة في قضاء أيامه الأخيرة في الإصغاء إلى هدير بحرها! في مفارقة هائلة بين ما تحفل به أمنيات الشباب من تطلعات بلا حدود، وأمنيات المرء الأخيرة البالغة البساطة!
يلعبُ البحر دور البطولة بحضوره الحي طوال أحداث الرواية؛ لا يفهم الراوي صغير السن المغزى من دافع أبيه العجيب، ولا يتمكن من إدراك فكرة السحر الكامنة في البحر لأول وهلة، ولكن ذلك يتغير بالتدريج، لأن البحر يعقد صلةً حميمةً بين الابن وأبيه، لحظات خاصة لا يطلع عليها أحد، اكتشافات يخفيانها عن الجميع، شاطئ سري خلال محجوب عن العيون لم يقترب منه أحد حتى مَن يزعمون معرفة كل زاوية في البلدة. ليصل الراوي – الابن في نهاية المطاف لوضع البحر في منزلة الجار والصديق.
مع ذلك فالبحر ليس مجرد موقع مكاني جامد، لكنه شخصية حية طاغية بكل أمواجه وهديره، يظهر في ذروة بهائه وجلاله متى أراد، يتوارى بعيدًا في لحظات الاحتياج والرحيل كأنه يتجنبُ هذه اللحظات، بل قد يبتلع الدخلاء لو اكتشفوا أسراره.
لا تبدو نصيحة الأب الأخيرة لابنه الصغير التي يشهدها البحر في أن يتعلم السير بمفرده، وحيدًا، مجرد طلب من أب أيقن بقرب أجله، ولكنها تجيء كنبوءة يجدرُ بالابن أن يستعد لها، بمثل نبوءة الأب الأولى بأن ابنه سيحذو حذوه في مجال الأدب.
ربما يصعبُ فهم ذلك على صبي صغير لا تتوقف الحياة عن إظهار وجهيها نحوه. وجه عابس قاتم يفرض نفسه بالارتحال والاقتلاع، تغيير البيت والرفاق، رحيل الأحباب تباعًا سواء غيَّبَهم الموت أو السفر، المباغتات غير المتوقعة دون انقطاع. ووجه رقيق بشوش لكنه لا يتجلى سوى في لحظات عابرة من المشاهد المألوفة ولكنها مع ذلك مبهجة ودافئة ووديعة، لا تفارق المرء بقية عمره وربما تُهوِّنُ عليه ما كابده بفعل مواجهة الوجه العابس القاتم.
مع سطوع حقيقة الاغتراب والارتحال بسبب وفاة الأب والانتقال إلى البلدة الصغيرة، ومع ارتباك الأسئلة الحائرة بداخل نفس صبي صغير يرى كل ما يحيط به بعينيه النفاذتين في خيال خصب يعيد تشكيل المشاهد من زاويته، يطمح إلى أمجاد وبطولات تدعو للفخر به مثل أبيه، يترقبُ مصائب وهمية درامية تقلب موازين حياته، تترسخ في ذاكرته أدق تفاصيل مشاهد الحياة اليومية ومظاهر الطبيعة المفعمة بالحياة من أشجار وأعشاب ونباتات وزهور ورمال وأصداف وخطوط وظلال وألوان، بل وطيور وأسماك ورأس ظبي يشاهدون معنا تفاصيل الحياة كما نراها من منظورهم أيضًا.
لا يتغافل الصبي عن تلك المشاهد الصادقة مهما بدَت عابرة ووقتية، مثل مشهد رهيف الحس لا يمكن نسيانه لانعكاس صورة البطل وشقيقته الرضيعة في عدسات نظارة الخال طانجال، يظل مطبوعًا في أعماق الراوي كلما تاق إلى أخته. يضاهيه في نفس الرقة مشهد غسيل الأم لزيه المدرسي في حنان جارف بينما جمعَ لها بدوره باقةً من الزهور النامية في الحديقة تعبيرًا عن امتنانه. ويعادل ذلك في رفعة الشعور الإنساني مشهد الأب في أيامه الأخيرة وقد وصله خطاب من أحد القراء يشيد فيه بكتابته لدرجة أن الأب يكاد يقرأه في خشوع كأنه يتلو صلواته وأدعيته.
وإلى جوار ذلك تتضح للصبي حقيقة الضعف الإنساني سواء فيه أو في الآخرين؛ يعترف بما في نفسه من نوازع رديئة، مشاعر الغيرة والحقد في عفويتها وصبيانيتها، تنهشه تلك الضغينة طوال الوقت سواء بسبب لعبة جديدة مع صديقه شيڨان، أو بسبب تلاوة صديقه اليتيم بلال للأذان، أو من ثراء حياة رياض ابن خالته. أو في إحساسه بالمرارة وأنه مخذول ومهجور عندما تقرر أمه الزواج ثانيةً بعد وفاة الأب، بعد كثير من التردد وتحت ضغط الاضطرار، حتى ولو تعذَّرَ على نفسه الصغيرة التعبير عن ذلك الغل الموجع إلا في هيئة البؤس والامتعاض بسبب ملابسه الرثة وإلحاحه في الحصول على ثياب جديدة.
تتكشف حقائق الحياة سواء أعجبتنا أو لم تعجبنا، في الحضور المهيب للطبيعة متجليةً في البحر بكل ألقه وجلاله وسرمديته كما في تنوع أشكال الحياة البرية، في حلول الأحداث المؤسفة التي تزيد من اغتراب النفس ووحشتها ووحدتها لأن الأحباب يرحلون حتمًا ودائمًا ولا يبقى من ذكراهم سوى بعض الصور المعلقة على الجدران أو بعض المشاهد التي سَجَّلَتها الذاكرة.
تتجاور في داخل أنفسنا كل تلك المشاعر المتباينة بين الحب والبغضة، الصدق والكذب، الاشتياق لمن نحبهم رغم غيظنا منهم، عفوية الطفولة ومكر البلوغ، المغامرات الطائشة والحماقات الكبرى، القرارات المصيرية والتحولات الفجائية، الأمنيات الصغيرة أو الأحداث العظيمة التي لا يملك المرء إمكانية التحكم في مساراتها.
يقدمُّ أنيس سالم في هذه الرواية ملامح من حياة أسرة هندية مسلمة وسط تنوع بشري عجيب من الشخصيات النابضة بالحياة والحقيقية في كل تصرفاتها. يصف تفاصيل حياتها بكل ما فيها جوانب إنسانية يتلامس معها القارئ بصدق تام.
يكتبُ أنيس سالم بلغة شاعرية عذبة ومجازات بليغة وصور متعددة الأبعاد، ربما يتحير القارئ في إحساسه نحوها، سواء في الشعور بالتعاطف أو بالتعجب، يبتسمُ حينًا للحظات بهجتها مهما جاءت موجزة وقصيرة، ويحزن معظم الوقت لما أصابها من غربة وافتراق ووجع وفقر رغم أن ذلك يبقى طويلًا.
لكن السؤال الجوهري يظلُّ مطروحًا مهما اختلفَت الأطر الثقافية والاجتماعية بين البشر حول كل تلك القواسم الإنسانية المشتركة بيننا جميعًا والتي تتجاوز الاختلافات، بكل ما تتضمنه الحياة الإنسانية من فرح أو أسى وكذلك ما تمنحه مجتمعًا معًا وليس في المقدور سوى قبوله كأمر واقع.
أمتعتني قراءة هذه الرواية وأرجو أن أكون قد وُفِقتُّ في ترجمتها، ومن خلالها نقدم الأديب الهندي أنيس سالم لقراء العربية للمرة الأولى، وأتمنى أن تنال رضا القراء وتكشف لهم عن جوانب جديدة ساحرة رغم ما يكتنفها من لوعة ووجع.